أبو النصر: الأحداث الكبرى كشفت تناقض المثقف العربي!

مقابلة أجراها: دخيل الخليفة

 

مقابلة صحفية أجراها الكاتب والشاعر الكويتي دخيل الخليفة مع الشاعر والكاتب اليمني فتحي أبو النصر للحديث عن المثقف العربي

 

أبو النصر: الأحداث الكبرى كشفت تناقض المثقف العربي!

 

يبدو مريراً ومحزناً حال الواقع اليمني، الدخان لطخ ملامح البلاد، فشوّه وجوه البسطاء، وفتح شهية مشعلي الحرب، وفي ظل هكذا أوضاع تضيع فيها السيقان والأيادي، وتختلط فيها الصيحات ويرتفع منسوب الفقر، يبدو وضع المثقف اليمني أكثر صعوبة وحيرة، فقد تاه بين نداء الوطن المطعون وبين أزيز الرصاص ودوي القذائف والاغتيالات التي لا ترحم حراً باحثاً عن وجه وطنه واستغاثات شعبه.

أبو النصر، الذي كان أحد قادة الحراك اليمني البارزين، يشير في حواره مع القبس إلى أن البؤس النخبوي في معظم بلداننا العربية الكبرى قاد الشعوب إلى واقع مرير، مبيناً أن الأدباء هم الحلقة الحساسة في هذه الدرامية.. وأن ما تكبدته الثقافة اليمنية لا يعوض.


 

وفيما يلي نصّ الحوار:

– غبت عن كل شيء يا فتحي، أين نعثر على نصك المغاير في هذه الخرائط الممزقة وزجاج القصور الرئاسية المتناثر؟

– لم يغب فتحي عن فتحي، ما زلت أراهنني، لكن تكاثرت علينا الشدائد يا صديقي الشاعر الكبير؛ إذ تقدمت الحرب فتشظى النص، هناك تشرد داخلي، رعب، ورصاص، حبيبة بعيدة، أم تولول، صغار عالقون، لجوء.. إنه زمن الخوف والتعب.

 

– مبكراً آمنتَ بالشعر وبالهمّ السياسي، لكن يبدو أن الأخير سرقك من الأول، أهي حسرة وطن ضائع؟ أم وضْع القصيدة على الرف مؤقتاً؟

– أحبّ الصديق الناشر و المثقف العربي خالد الناصري أن يستضيفني في فعالية شعرية عبر الزووم، قلت له إن العالم لم يعد بحاجة إلى شعراء، فردّ قائلاً: «نحن نعلم بذلك، ولأجل هذا لا نقدم الشعراء لهذا العالم بل للعالم الآخر».. وأعجبني رده.

أفهم أن السياسة تتلف الروح والوجدان، بيد أني لا أفهم أكثر اللامبالاة بشؤون البلاد المحتربة. هناك مجموعة شبه جاهزة عن الحرب، ورواية تدخل صوت الإنسان اليمني المخذول والمقهور في متنها.


 

تحولات المثقف العربي

كنت أحد قادة حراك الشباب اليمني ضد حكومة علي عبدالله صالح، كيف ترى الوضع في ظل أحلام لم تتحقق وآلت إلى منطقة معتمة في التاريخ اليمني؟

– في 2011 لم تكن الحقيقة مكتملة بشكل صحيح، لكن انفعالات الحس الثوري الممتد اشتعلت في كل بلد عربي، لدى هذه الشعوب مشاكل عميقة والأنظمة لم تتغير، ثورتنا كانت سلمية وهذه عظمتها في بلد مسلح، وغايتنا دولة ديموقراطية مدنية، فضلاً عن عدم توريث الجمهورية والاستغلال السياسي للدين، لم نكتف بذلك وصرخنا بإسقاط النظام.

حدثت تحولات أفضت إلى أرقى ما توصل له الشعب «مؤتمر الحوار الوطني»، أقر دستوراً جديداً وشكلاً فدرالياً اتحادياً لحل معضلات الدولة الإدارية، فجأة تنكث الميليشيات الطائفية بالمخرجات التوافقية، تعمم العنف، تسقط العاصمة والمحافظات، تشتعل وتتسع الحرب.. حدث الارتداد الرهيب للذات اليمنية، فدخلنا في مرحلة انقسام الجيش والتطييف، بالإضافة إلى التدخل الخارجي. نحن الآن كيمنيين بحاجة ماسة لنقد الذات والإيمان بسلام ناجز لدولة ضامنة.


 

قدر تاريخي

كأن هذه الحرب ستقتل التنوع اليمني، حيث الطوائف والديانات واللهجات المختلفة؟

– فعلا، فما تفعله الحرب أكثر من بشع، استلاب، احتقار للإنسان، تخلٍّ عن الأخلاق والقيم الكبرى الحامية للمجتمع وتنوعه. الحرب حولت الشقي على السواء إلى أكثر شقاء، ليس المستفيد منها سوى تجار الحرب ومهربي السلاح ومافيا السوق السوداء. أما اليمن فهو أبقى من كل الأشياء العابرة.. ذلك قدره التاريخي منذ الأزل، مر باستعمارات وحروب داخلية لكن الإنسان حافظ على جوهره حراً. الآن على العكس أرى أن اليمن يطرح أسئلته الكبرى والموجعة باتجاه التحديث والسلام والتعايش.. المواطنة أولاً وأخيراً، الباقي تفاصيل.. يمن الأرض والحضارة والإنسان لن ينتكس بسبب ميليشيات معتوهة.


 

– تحدثت سابقاً عن سقوط مدوٍ لمثقفين وأدباء وفنانين في فخاخ الثنائيات المتدافعة.. برأيك لماذا كانت هذه الحالة عربية بامتياز لدى انطلاق الربيع العربي وغيره؟

– المثقف العربي انكشف مع هذه الأحداث بين ما ينادي به وما يؤيده، هناك تناقض رهيب في نماذج كبرى كثيرة، ربما الطائفية تغري شيئاً ما داخلهم، لكن الطائفية هي التخلف بل آفة المثقف. هذا البؤس النخبوي في العراق واليمن وسوريا وليبيا قادنا إلى ما نحن عليه.. ليس بالضرورة أن نكون مع أو ضد، لسنا ميليشيات، الاحترام الكبير للمفكرين والأدباء والفنانين الأحرار الذين اندمجوا مع أحلام الجماهير ولم يتعالوا عليها أو يخذلوها في المواقف الوطنية، إنهم قلة.. لكنهم يتكاثرون، ثق بهذا.


لوحة لفتحي أبو النصر، رسم: لمياء يوسف - أبو النصر: الأحداث الكبرى كشفت تناقض المثقف العربي!
لوحة لفتحي أبو النصر، رسم: لمياء يوسف – أبو النصر: الأحداث الكبرى كشفت تناقض المثقف العربي!


ليل سوريالي

ما الذي يمكن أن تفعله القصيدة في هذا الليل السوريالي الذي سرقه حراس الظلام من «البلاطجة» فأصبحتم خارج الحدود؟

– القصيدة حائرة ومجنونة مثلي، ما بين فكرتَي الخير والشر نمشي على حبل مشدود. القصيدة تحاول إضاءة الخيال واستشراف الجمال؛ فيما الواقع أكثر سوريالية وفوضى وعبثا مما نتوقع.. نحن الآن بأرواح ممزقة بسبب هؤلاء «البلاطجة»، مشكلة انفلات السلاح في اليمن مشكلة عميقة جداً، نوايا القوى المتخلفة ضد المشروع الوطني المدني الجامع، لكنني على طريقة ماركس أؤمن بأن ما يحدث ليس نهاية التاريخ.

 

– الأدب رغم أنه حالة إبداعية فنية فإنه يؤرخ أيضاً لهذا الخراب..هل تابعت الحالة اليمنية؟ هل هناك ما يمكن تسميته «أدب حرب»؟

– لن أبالغ وأقول «أدب حرب».. لكن أجواء الحرب لها مالها إذ انعكست على الأنفس بشكل صريح، هناك 6 سنوات من القتل، تخيل..! نحن ملزمون بالوفاء للحظة. الأدباء هم الحلقة الحساسة في هذه الدرامية.. وما تكبدته الثقافة اليمنية لا يعوّض.

 

– إذاً، كأن الساحة اليمنية التي كانت تضج بالمختلف تبدو شبه فقيرة، أين تفرق مبدعوها؟

– يا عزيزي، الآن لا مجلة أو صحيفة أو كتاب يدخل اليمن.. الموظفون بلا رواتب، الأديب في القاع.. نزوح داخلي، أو تغريبة خارجية. التواطؤ مع المتحاربين أو الحفاظ بوجدانك.


 

سببان للغياب

لماذا يغيب المبدع اليمني عربياً؟ كثيرون يريدون الحصول على إبداعاتكم ويعجزون عن الوصول إليها؟!

– كم هو تعيس هذا المبدع اليمني، وعلى العموم كأنه في ظل ديمومة متناسلة من القهر والتهميش، ومع ذلك لا تنسَ ما يخلّفه الكسل والمزاج، الإحساس باللا شيء واللهاث وراء لقمة العيش أعتقد أيضا سببا الغياب.

 

– سنوات مرت على تجربتك الشعرية الأولى «أعناق طويلة لظني ورحيق دخان» وكذلك «نسيانات أقل قسوة».. وماذا بعد؟ هل تحوّلت الأغاني إلى مزحة مستفزة يا فتحي؟

– هل تصدق بأن المرحلة بين المرحلتين ترعبني، كانت هناك أحلام ومثابرات، أحاسيس رومانسية وتدفق عاطفي.. لو أن بمستطاعي العودة لوقفت أمامي شارداً وواجماً أكثر مما ينبغي. إلا أن المنافسة للأغاني ستظل أكثر حضوراً.. تلك طبيعة الإصرار على 17 عاماً بين التجربتين.. وما بينهما التجربة التي أعتز بها «موسيقى طعنتني من الخلف».

 

– بما أنك في عاصمة الفن والثقافة (القاهرة).. حدثني عن تفاعلك مع أدباء مصر؟

– أعمل على كتاب نوعي اسمه «لذة العيش بين المصريين».. إنهم طيبون بالفطرة، وهم يعافرون. مصر تمنحك الحنان وإشراقة الفن والأدب الجديدين رغم كل شيء، دور النشر حاضرة، الفعاليات لا تنتهي. قبل فترة كنا نلتقي بعضنا مع بعض من أصدقاء وشعراء وروائيين، وبعد كورونا تعقدت العلاقات.. قبل سنتين زرت محافظة طنطا في مهرجان شعري وقرأت قصائد نثر في قرى ونجوع، كانت تجربة ملهمة. كما شاركت في اليوبيل الذهبي لمعرض الكتاب قبل عام.. لكنني في 2020 صرت أكثر عزلة لأسباب نفسية كثيرة.

..

نقلًا عن القبس:  https://alqabas.com/article/5810749

التعليقات مغلقة.