الأدوات التقليدية للقبيلة في اليمن في حل المشاكل المجتمعية
في العُرف القبلي اليمني، ثمة قوانين منسوجة، تقوم بتنظيم العلاقات الخارجية بين القبايل، أو العلاقات الداخلية بين الأفراد، فيما تملك حلولًا لكل الخلافات الناشئة بين الجميع وفق قواعد عُرف قبلية نسجتها لنفسها، لتكون بذلك شكلًا من أشكال الدولة ذات قيمة مجتمعية مهمة للاطار المعيشي بين القبائل اليمنية، فهناك أدوات تقليدية للقبلية في اليمن في حل المشاكل المجتمعية تقوم محل القانون في كثير من الأحيان، سنتعرف عليها من خلال هذا التقرير.
لدى القبيلة في اليمن أدوات تقليدية للنظر في كافة المسائل التي تطرأ عليها، لاسيما الخلافات التي يتم حلها باستخدام أدوات التحكيم القبلي، وفي الغالب، فإن الحديث عن التحكيم(1) القبلي، يعني أن يمتثل طرفا النزاع أمام سلطة القضاء الشعبي والذي يقوم بتجسديه شيخ المنطقة/العزلة أو شيخ القبيلة أو شيخ المشايخ، أو يكون شخصًا معروفًا بكونه حكمًا عدلًا ولا يُرد له حُكمًا، بحيث يتحكّم في هذا الدور مدى أهمية النزاع أو اتساعه.
في حال امتثل الطرفان للشيخ، فإنهما بذلك يعنيان أنهما سيقومان بتنفيذ الحُكم الذي سوف يصدر بحقهما، وفي الغالب، يستمع الشيخ للطرفين وتُعرض عليه القضية والوقائع والأدلة والاحداث، ليقوم بعد ذلك بالحكم في القضية.
ومن أجل جدية القبول بحكم الشيخ، فإن الطرفين يقومان بالعدال (2)، والعدال من الممكن أن تكون أسلحة بيضاء أو كلاشينكوف أو سيارات، وتختلف عدد الأسلحة والسيارات باختلاف نوع القضية.
ويُرفق العدال بورقة تسمى “الغرس” والغرس هو أن يقوم الطرفان المتنازعان بالتوقيع على اقرار وتراضي على الشيخ الذي يتفقان عليه لحل النزاع بينهما، والهدف منه ايصال الأطراف للشيخ والامتثال عنده في الموقف، ثم يقوم الطرفان بتقديم “الدعوى والاجابات والبراهين” فيطلب الشيخ ما يسمي بالثقل، والثقل يكون على حجم القضية، إذا كانت القضية صغيرة يكون الثقل بنادق، وإذا كانت القضية كبيرة يكون الثقل سيارات وضمانات مالية، والهدف من وضع الثقل هو الضغط على أطراف النزاع بالقبول بالحكم الصادر من المُحكّم، وبعد أن يوفر طرافا النزاع الثقل، يقوم المُحكّم بإصدار الحُكم، وفي الغالب، يستمع الشيخ للطرفين وتُعرض عليه القضية والوقائع والأدلة والاحداث.
وإذا ما افترضنا أن الحكم لم يكن مرضيًا لأحد طرفي النزاع، فإنه بهذه الحالة يلجأ لشخص يُطلق عليه “المُنهى” وهو الشخص الذي يقوم باستئناف الحكم، ويعتبر حكمه ساريًا دون رجعه.
وتتخّذ القبيلة في اليمن من التحكيم أداة لإيقاف تطوّر القضايا وردع لعدم ارتكاب قضية مشابهة، وهو بمثابة “حشم” أي تهدئة لأي تصعيد في القضية، وما يتم بعد الحشم هو الصُلح، وما بعد الصُلح متروك لأولياء الدم، إما العفو، أو تنفيذ الحكم.
إقرأ أيضًا:
قضية قتل تنتهي بالعفو..
قبل نحو عشر سنوات، حدث خلافًا بين دارس وعبدالعزيز وهما من أبناء الجميلي في مديرية رحبة محافظة مارب 131 كم عن صنعاء، انتهى إلى مقتل الأخير. بقي الأول سنوات مسجونًا في انتظار موعد إعدامه، قبل أن يتم العفو عنه مؤخرًا.
كيف تدخلت القبيلة في اليمن لحل فضية القتل هذه؟
الأربعاء، 15 تموز/ يوليو 2020، فيديو خاص – وقوف الشيخ عبدربه عامر شبرين الجميلي، وهو والد القتيل عبدالعزيز، ليعلن عن عفوه العام على دارس
عفا عنه لوجه الله وبدون مقابل، وسط حضور مهيب من مشايخ وأعيان المنطقة وحضور قبلي من أبناء قبائل بني ضبيان ومراد، تقدمّهم كلًا من: الشيخ اللواء عبدالقوي أحمد شريف محافظ صنعاء، الشيخ قاسم ناصر السالمي، الشيخ محمد أحمد المكسوس، الشيخ ناصر عبدربه السالمي، الشيخ صالح محمد الفقير، الشيخ ناصر الحميدي والعميد علي ناصر الحميدي، الشيخ صادق محمد الفقير، الشيخ أحمد محمد سعداء، الشيخ مجيب ناصر الحوتي، الشيخ علي طالب سجلان، الشيخ ناصر بن ناصر السالمي، الشيخ العجي عباد مرشد، الشيخ جارالله سعيد مقبل، الشيخ ناصر طالب زجر، الشيخ أحمد علي حركان، الشيخ ناصر ناجي مرتع.
ولعل هذه الحادثة هي الأولى التي امتزج فيها العمل المدني مع العمل القبلي من خلال مشاركة وفد مدني ممثلا لمركز الإنذار المُبكر لحل النزاعات وصناعة السلام، وهو الذي يملك فريقًا من سفراء السلام، والذي مثّله في حادثة الصلح هذه السفير أبونخلا عبدالمجيد بحيبح، السفير عبدالله مقبل المطوع، والسفير عبدالماجد منصور هندروس.
كيف تتم حوادث الصلح القبلي في اليمن؟
حوادث صلح القبيلة في اليمن أو ما يطلق عليها الصلح القبلي تختلف أعرفاها بين شمال اليمن وجنوبه، ففي جنوب اليمن يُطلق على العرف القبلي “ناموس” وفيه يرد كل تفاصيل الناموس، والناموس هنا بمثابة دستور للمجتمع وترد فيه الكثير من الأحكام، وهناك من يُعد مرجعيات في الحكم ويكون لحُكمه وجوب التنفيذ.
وفي شمال اليمن يُسمى بالعُرف، والسائد عند قضايا القتل أن وساطات تتكوّن من مشايخ وأعيان لهم مكانتهم لتكون وساطة بين طرفي النزاع ويسعى لحل القضية بين الطرفين، وفي قضية القتل سالفة الذكر، تكوّنت وساطة قبلية انتهت بأن تقوم أسرة القاتل بتسليم القاتل إلى الجهات الأمنية ليتم عبرها “تنفيذ شرع الله”.
قرار الفصل هذا جاء بعد أن قامت الوساطة بوضع خيارين على أبو القاتل: “إما أن يقوم بتسليم ولده والنظر في القضية وفق الشرع، أو أن يقوم بالعُرف القبلي ويضع فروعه ويقوم بالتحكيم” والقصد بالفروع أي العدال، من أجل ألّا تتطوّر القضية على نحو غير جيد. قام بتسليم ولده إلى السجن فتحوّلت القضية إلى المحكمة التي اتخذت حكمًا بالقصاص، ليبقى دارس في مواجهة الموت كل ليلة، قبل أن يحصل مؤخرًا على العفو.
تسعى الوساطة دائمًا إلى الصلح وتحاول إيقاف القضية قبل أن تتحوّل إلى قضايا ثأر قبلي
كيف تجري مراسم العفو القبلي في اليمن؟
تصل جموع المُحكّمِين إلى الطرف المُراد تحكيمه، ثم تبدأ بالتعشيرة (3)، وهي لفت انتباه الطرف المُراد تحكيمه من خلال إطلاق بعض الأعيرة النارية. يتجمهر أفراد القبيلة المستضيفة ويكون في الواجهة الطرف في النزاع، ثم يبدأ الضيوف بترديد الزوامل، وهي نوع من الغناء الشعبي اليمني، يلي ذلك ترديد خطبة.
يتم تلاوة خطبة قصيرة من الطرف الضيف لمناشدة الطرف المستضيف “أولياء الدم” للعفو والصلح، ويقومون من خلالها بتذكيرهم بأعراف وتقاليد التسامح القبلي، وعادة ما تحوي آيات قُرآنية، فعدد من الأعراف القبلية مستمدة من الشريعة الإسلامية، هي بالأساس قواعد وأعراف قديمة، مستمدة من الدولة الحميرية.
ثم يعقب ذلك التحكيم بضع، أمام أولياء الدم، مبالغ مادية تصل إلى خمسة مليون ريال يمني ما يعادل نحو ثلاثة ألف دولار، كما يتم وضع أشياء عينية، مثل سيارة. كما يتم الإشارة إلى وضع “العقيرة (4)” أي كائنات حية تكون بمثابة ثُقل في عناصر التحكيم القبلي. ثم يقوم الطرف المُحكّم بطلب النزالة، ما يعني أن يتنازل أولياء الدم عن القصاص ويتفاوضون حول الحلول المُتاحة.
في قضية دارس، مرّت لجنة الوساطة بهذه المراحل، وبعد الانتهاء من الخطبة وتقديم الحكم، أعلن أولياء الدم بأن الحاضرون في ضيافته، والحديث معهم سيكون بعد تناول وجبة الغداء، وهو ما يعني ضمنًا أن الوساطة قد تنجح في توجيه الطرفين نحو التفاوض حول الحلول المُتاحة، وما حدث هنا هو العفو بدن مقابل حيث تم تقديم التنازل عن الجاني لوجه الله وللحاضرين جميعًا.
منظمة مدنية تشارك في العمل القبلي
تجمّهرنا أمام أولياء الدم نطلب الصُلح ونرغب بالعفو، ولم يتم ردنا
ليست حادثة العفو هذه هي الأولى من نوعها، فمجتمع القبيلة في اليمن مليء بحوادث العفو والصلح عن قضايا عديدة، لكن الجديد في هذه القضية هو وجود قوى مدنية اقتحمت العمل القبلي.
تدخّل مركز الإنذار المُبكّر لحل النزاعات وصناعة السلام في عملية العفو والصلح، في تدخّل هو الأول من نوعه، والمركز حديث النشأة، مقرّه في مارب، يتبع مؤسسة فتيات مارب، ويهدف لتحقيق الاستجابة الفعالة للنزاعات والتنبؤ بها وإدارة السلام بطريقة تناسب الثقافة المحلية، ويسعى لإيجاد وسائل تتيح فهم أعمق لحل النزاعات وتحقيق السلام المستدام.
وبناء على هذا التدخّل المدني، فإنه من المتوقع أن عمليات بناء السلام في المجتمعات القبلية، من المرجّح أن تنتقل لمرحلة جديدة، يتم من خلالها فض النزاعات بطرق غير تقليدية، مبنية على منهج عملي، وإخضاع العاملين في مجال حل النزاعات إلى دورات تكوين نوعية، تمكّنهم من التعمّق في فهم المشاكل وحلحلتها وتقديم حلولًا مرضية للطرفين.
ويعمل مركز الإنذار المُبكّر باستخدام الأدوات التقليدية والحديثة. والأدوات التقليدية هل التي يتم من خلالها حل النزاعات هي الوسائل التي يتم استخدامها من قبل القادة الاجتماعيين في تسوية النزاعات ومنها التحكيم والهجر والصلح وغيرها، فيما الأدوات الحديثة هي ما يتم تطويرها واستخدامها بشكل علمي كإنشاء سفراء للسلام ولجان للتحكيم والتفاوض والوساطة.
جاء العفو نتيجة لجهود قبلية ومدنية أثمرت بشكل إيجابي
ويقوم المركز بالدمج بين الطريقتين في آلية عمله، فمن خلال قضية دارس التي قام بالتدخّل بها بعد دراستها ودراسة العوامل المؤثرة فيها، خصّص مبلغ مليون ريال يمني “نحو ألف وثلاث مئة دولار” للمساهمة في التحكيم القبلي وهو نوع من الأدوات التقليدية، فيما كلّف فريق من لجنة التحكيم وسفراء السلام للتدخل المباشر في القضية وهو نوع من الأدوات الحديثة في فض النزاعات.
ومن شأن هذا التطوّر في التدخل المدني بالقضايا المجتمعية أن يساهم في حل الحوادث التي تؤثر على بناء السلام المستدام بين أبناء المناطق التي يستهدفها المركز، حيث يأمل المركز أن ينتشر جغرافيًا في عموم محافظات اليمن ليكون أحد الأدوات التي تساهم في عملية بناء السلام عبر تقديم فهم أوسع لأسباب الصراع ودوافعه وتحقيق استجابة فعالة تتناسب مع احتياجات المجتمع والسعي للعمل على تفادي حدوثه في المستقبل.
هوامش:
(1) التحكيم: هو رقم يتم التراضي عليه من طرفي الخصومة بتفويض جهة أخرى لحل خلافاتهم وإصلاح شأنهم، أو تفويض خصم لخصمه، لكن العادة أن هناك شخصيات تتحكم لحل الخلافات شخصيات لها ثقل قبلي، ولديها خبرة بالأحكام والأعراف القبلية، وتتمتع بصفة الحياد بين الطرفين. علما بان له عدة أوجه ك”تحكيم مطلق، تحكيم وللمحكم الوفاء، وتحكيم وللمحكم المنهى، وتحكيم وللمحكم الذمة بالحكم بالحق ….الخ” ويتم صياغته من قبل محايد ينص على فحوى الاشكال ويذكر فيه شهوده وزمانه وتوقيع الاطراف المحكمة.
(2) العدال: مجموعة من الأسلحة أو الأشخاص أو الأموال توضع لدى طرف ثالث أو للخصم لضمان تنفيذ حُكم المُحكّم.
(3) للتعاشير أهمية قبلية فهي تكبر شأن المضيف وتعلن الخضوع لإِرادته وشهامته لشأن من الشؤون أقلها واجب الضيافة، وقد يحكم للتعاشر ضمن أحكام قبلية مقرونة بأحكام مادية أو أدبية أو كليهما.
(4) العقيرة: القيام بذبح رأس غنم أو رأس بقر أو رأس من الإِبل أو أكثر لدن الجهة المطلوبة عفوها أو مساندتها أو تخفيف ظلمها أو عقوبتها. والعقائر تدخل ضمن الأحكام العرفية التي تفرض في بعض القضايا مصحوبة بالتعاشير، أو بدون تعاشير، وهي تدخل خاصة ضمن أحكام اللوم والعتب في العيب ونحوه من الأعمال والانتهاكات.
التعريفات من مدونة يمن كوم، رابط: http://yemen-com.blogspot.com/2016/03/blog-post.html
للدكتور رشاد العليمي كتاب اسمه “القضاء القبلي في اليمن” – رسالة ماجستير- كتاب رائع جدا جدا بمنهجه العلمي وتفسره الموضوعي للظاهرة، فيه مفاهيم التحكيم القبلي واجراءات التحكيم والتفسير السوسيولوجي للمظاهر المرافة لعملية التقاضي ودرجات التحكيم .
و كتاب “التقليدية والحداثة في القانون اليمني” للدكتور العليمي ايضا – رسالة الدكتوراة – سيفيدك ايضا لو عندك رغبة بتوسيع الكتابة في هذا الجانب ، لكن الاول اهم.
للدكتور فضل ابو غانم ايضا كتابين يعتبرا من اهم المراجع اليمنية المتعلقة بالقبيلة واعرافها ، لأسباب ثلاثة، الاول المنهج العلمي كونها محكمة – رسالة ماجستير و رسالة الدكتور – والثاني لان الدكتور فضل ابو غانم نفسة من اسرة قبلية ذات مكانة عالية في العرف القبلي – مشائخ- فاستخدم خبرته وملاحظاته المباشرة وتجاربه. والثالث ان الكتابين معززة بو ثائق قديمة وحديثة للتحكيم القبلي والاعراف القبلية الاخرى.
اسم كتابه الاول “البنية القبلية في اليمن” ماجستير
اسم كتابه الثاني “الدولة والقبيلة في اليمن” دكتوراه
كل الشكر والمحبة لك على هذا التحشيد النوعي للمعلومات