هذه المرة أنا القصة

كُنت قد أعتدت على الكتابة عن أوضاع نازحي القرن الأفريقي في اليمن والمُعاناة التي يقطعوها في رحلتهم البحرية على قوارب الموت، ولم أكن أتصوّر أبدًا أن أكون إحدى هذه القصص، وأكتب عن قصة نزوحي بحرًا ومواجهة خطر الموت. لم أكن أعلم أني سأتحول إلى “قصة نزوح” عوضًا عن تدوين قصص المهاجرين والنازحين. وضع الحرب جعلني أعبر البحر هربًا إلى جيبوتي ثم السودان وذلك لأبحث عن وطن بديل، لقد وجدت نفسي مضطرًا لذلك بعد استهداف الصحفيين أرضًا، واستهداف الجميع عبر مقاتلات السماء.


في صباح 6 مايو 2015 أخرَجت أمي مبلغ خمسة ألف ريال يمني (15$) وأعطتني إياه مع مبلغ من المال كنت قد وضعته لديها، مدّت يديها إليّ واعطتني إياه كإعانة لرحلة هجرتي. كان الموقف صعب للغاية، مؤثّر، سكاكين تنخز في القلب وتُغرز غرزًا حتى الداخل، دموع تتجيش، لكنها تتريث، خوفًا من أن تراها أمي وتزيد من وجعها لمغادرتي.

أخذت المبلغ، ليس لكوني بحاجته، لكن لمعرفتي بأن عدم أخذي له سيجعل أمي في حسرة كبيرة، كون ما أملك من مال ليس كافٍ لأبدأ حياة جديدة في المهجر، أبدأ من الصفر.. الصفر اللا متناهي، لا عمل ينتظرني ولا وعود بمستقبل جديد.

خرجت من المنزل ممتلئ بحضني أمي وأبي والجميلة غدير، لكن غفران “آخر العنقود” هربت من معانقتي حتى لا أرى دموعها الحزينة على فراقي

سيارة خاصة إلى ميناء المخاء، نقاط التفتيش لا تُطيل الكلام، الطريق تلسعها الشمس وتغتالها الحُفر، ولا أحد فيها سوى نحن والدمار الذي يظهر ويختفي.

وصلنا إلى الميناء في الرابعة عصرًا، أخذوا جوازاتنا مع مبلغ مالي مرتفع، وتوجهنا نحو المكان المُخصص لمراكب النقل، كان هناك خمسة منها وحولها عددٌ من المسافرين ينتظرون متى سيحين دورهم لركوبها، ويتساءلون هل سيبقى لهم مكانٌ يجلسون فيه، أم أنّهم على موعد مع متاعب لا يعلمون ماهيّتها؟

 

تذكار أخير:

في السادسة مساء كنت ألتقط صورًا للميناء، علّها تكون الأخيرة قبل أن تدمّره الحرب أو نموت غرقاً، أو ربما تكون هذه اللحظات هي الأخيرة لتواجدنا في بلدنا اليمن، لكن صوت إمرأة عجوز كانت تجلس في الطّرف الآخر من مكان التقاطي الصور، اخترق حسرتي، صَرَخت بأني آخذ صوراً لها، تجمهر الناس واحتشدوا مندّدين بهذا الفعل “الغادر والجبان”.
 

بجواري زميل الدراسة الجامعية عبدالناصر الريفي، التقيته في الحديدة دون تنسيق وكانت وجهتنا واحدة، وهدفنا واحد: “البحث عن فُرصة للنجاة” ركبنا البحر في السابعة والنصف من يوم أربعاء بتاريخ 6 مايو 2015 نحو جيبوتي، كانت تلك الليلة هي آخر ليلة عشنا فيها تحت سماء اليمن.

بدأ قارب الموت يتحرك في الثامنة والنصف، أضواء اليمن تتلاشئ شيئًا فشيئًا، ومع غيابها، غرقنا في نومنا وغرق معنا الألم والحسرة لهذا الرحيل الموجع!

ريح شديدة أيقضت الجميع من النوم، كان القارب كما لو أنه التايتنك في تخطيه الأمواج العالية، حتى أننا كُنّا نتشبث بجدران القارب عندما تسبح الموجة من تحته. كما لو أن “كراكون إله البحر بوسايدن” تزحف من تحتنا بهيجان، رافضة مغادرتنا بهذا الشكل!
ما يُخفيف هُنا ليس الموت القادم مع كل موجة، على الأقل لدينا شعور يتملّكنا بأننا مُتنا ونحن نحاول النجاة بالقدر الذي نستطيعه. لكن المُخيف في الأمر أني والريفي الوحيدان اللذان يملكان سترتا نجاة، وكل النساء والأطفال الذين معنا لا يملكونها، هل نُنقذ أنفسنا أم نمنح السترتين لطفلين ونكون بذلك ساهمنا في انقاذ المستقبل؟
 

رحلة نزوح..

 

كل شيء مُتعلّق باليمن اختفى، ما عدا ذلك الألم الذي يسكُن هنا، في قعر القلب، حتى هذه اللحظة

عبدالرزاق العزعزي صحفي يمني مهاجر

 44 فرداً كانوا بجوارنا كنازحين، أطفال ونساء وشيوخ في رحلة استمرت 24 ساعة ونصف من ميناء المخا إلى ميناء جيبوتي بسبب شدّة الرياح في تلك الليلة التي أبحرنا فيها عكس التيار، يكسونا الخوف الشديد ويحاصرنا برد الليل ورياحه، وشمس الظّهيرة ولسعاتها.

لا مكان مناسب للجلوس أو النوم، المركب يحمل “البصل” ونحن، ولم نعد نملك أيّ خيار سوى ركوب الأمواج والبصل في آنٍ واحد، كان علينا أن نستخدم البصل كسرير وغذاء، لا مجال للرّاحة أو التفاؤل، حتّى أن طاقم السفينة كان يشعر بالخوف من قوة الرياح.

الثامنة والنصف من مساء الخميس كنّا نراقب الأضواء القادمة من سواحل جيبوتي، كانت أحلامنا بدأت تتشكّل حول كيفية قضاء الليلة الأولى في جيبوتي: “نشتري شريحة اتصال ونستأجر غرفة رخيصة بدون تكييف، نغتسل فنتوجّه إلى أيّ مطعم لنسدّ ثغرات الجوع بداخلنا، ثم نتوجّه إلى صالون الحلاقة فأقرب مكان انترنت، ثم نتسكّع في شوارع جيبوتي لرؤية وجوه الناس الطبيعية التي فقدناها في اليمن بسبب الحرب التي رسمت البؤس والخوف والقلق على وجوه الناس” كلّ هذه الأحلام التي صنعناها لأنفسنا تبخّرت بعد وصولنا الميناء.

كان عبد الناصر الريفي حزينًا للغاية لمرور 24 ساعة كاملة دون أن يعرف نتيجة مباراة فريقه المفضّل “برشلونة” الإسباني


لم نصل إلى جيبوتي بل إلى مخيم الاحتجاز في الميناء تحت حراسة مشدّدة من الأمن وضيافة البعوض ليلاً والذباب نهاراً كإجراء روتيني يقتضي توفير ضامن من مواطن جيبوتي ليضمن خروجه من البلد وعدم بقائه فيها، حتّى وإن كانت أوراقه سليمة.


في مخيم الاحتجاز..

قبل نزولنا، وقفت فتاة شقراء يتدلّى شعرها إلى كتفيها وصرخت بمكبّر الصوت، مخترقةً بكاء طفل: “الأمريكان واللي معاهم جوازات أمريكية يجو بعدي“. أمّا الباقون فليذهبوا إلى الجحيم (مخيم الاحتجاز)!

ماتزال جوازاتنا محتجزة لديهم، أخذونا إلى هنجر الإحتجاز. عطفوا علينا بالماء المالح والأكل القليل، وشدّدوا علينا الحراسة، وابتسامة الحرس لم تكن كافية لمنع وقوع المشاكل المتعدّدة، لتبدأ هُنا صفقات الضمانة مقابل النقود.

تمّ وضعنا في هنجر يجمع الرجال والنساء ويمنع بعضهم من رؤية الآخر، من خلال ستار أبيض اللون عليه شعار المفوضية السّامية لشؤون اللاجئين، إلا أنّه لا يمنع صراخ الأطفال المرحين أو الباكين وما أكثرهم، ولا يمنع أيضًا همهمات النساء اللاتي يعتبرن أصواتهن عورة!.

كان المخيم مكتظّاً باليمنيين، الكثير منهم محتجز لأكثر من شهر بسبب عدم توفّر ضامن، وآخرون أوراقهم غير مكتملة. لا يمكنك الخروج بسبب الأمن المشدّد وغياب جوازك، يمكنك فقط أن تحتجّ لتتمّ إعادتك إلى موطنك الأصلي أو الابلاغ عنك.

 

قلوب لينة تنقلنا للطرف الآخر من العالم

قلوب أولئك البحارة الذين قادوا المركب، مليئةٌ بالطّيبة وليّنة للغاية، تشعر أنهم أصدقاؤك منذ زمن بعيد جداً.. ليتهم كانوا حكّاماً لنا

تحدّوا الرياح وأبحروا عكس التيار بهدوء، تعبوا كثيراً من أجل راحتنا، كانوا أذكياء جداً بقيادتهم المركب كما لو أن قائدهم ألكسندر سيلكيرك.

كانوا مغامرون حدّ الهروب من البوارج الحربية التي تعترض طريق الجميع للتفتيش، كانوا كرماء ليصنعوا لهم الوجبات ويشاركوها معنا.

أربعٌ وعشرون ساعة ونصف قضيناها سويّاً نصارع الموت القادم مع كل موجة كبيرة تضعها الرياح في طريقنا، ومع كل التفاتة هروب من البوارج الحربية في المياه الإقليمية.

 

3 تعليقات
  1. Hashem Azazi يقول

    احزنتني كثيرا يا صديقي اتمنى ان يكون الآن وضعك قد تغيير للافضل
    تحياتي لك ولاسرتك وبالاخص بنوتك الحلوة

  2. هاشم عزعزي يقول

    احزنتني كثيرا يا صديقي اتمنى ان يكون الآن وضعك قد تغيير للافضل
    تحياتي لك ولاسرتك وبالاخص بنوتك الحلوة

  3. Abdallah يقول

    ها انت الان بخير يا صديقي رغم كل شي والحياة مراحل

التعليقات مغلقة.