قبل أربعون عامًا، اتفق الأشقاء الستة في منطقة الخليج العربي على تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية أو ما يُعرف بمجلس التعاون الخليجي.
جاء في ديباجة نظامها الأساسي أن الهدف من هذه الوحدة هي: تعزيز الروابط الخاصة بينها والسمات المشتركة بينها، ولكونها تؤمن بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبة منها في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين لخدمة الأهداف السامية للأمة العربية واستكمالا وتحقق طموحاتها نحو مستقبل أفضل وصولا الى وحدة دولها تماشيًا مع ميثاق جامعة الدول العربية الداعي إلى تحقيق تقارب أوثق وروابط أقوى بين الشعوب.[1]
ظلّت العلاقة المشتركة لهذه الدول الست ثابتة وراسخة، تمتاز بالمتانة ووحدة شعوبها ومصير دولهم المشتركة، إلا أن هذه الوحدة التي جمعتهم منذ الخامس والعشرين من مايو 1981، تأثرت بالأحداث السياسية في المنطقة العربية، لاسيما مع أحداث الربيع العربي والاتجاهات التي اتخذتها كل دولة في المجلس نحو دعم الجماعات التي تتفق معها سياسيًا، وذلك تحصينًا لنفسها عقب امتداد هذه الاحتجاجات ودخولها حتى دول المجلس.
وقد أعلن الربيع العربي عن موعد البداية الحقيقية للتصدّع في علاقات دول المجلس، وكان ذلك منطقيًا نوعا ما، فدول المجلس التي تتشابه في عاداتها وتقاليدها وموروثها الشعبي وحتى المناخ الجغرافي والسياسي؛ لا تتشابه عمومًا في سياستها الخارجية ورؤاها المستقبلية، فدولة مثل الكويت ترى أن أهم ما يميز سياستها الخارجية هو تصالحها مع جميع الشعوب بغض النظر عن المصالح المرجوة، وهو ما تترجمه رؤيتها الوطنية عبر استقطاع جزء من مواردها لمواصلة نشاطها الإنساني، وهذا مالا يتشابه مع الدول المجاورة التي تسعى لتقديم نفسها بصورة مختلفة، سواء عبر دعم جماعات أيدلوجية محددة، أو عبر التمدد في المنطقة والتدخّل السلبي في شئون الدول المجاورة.
المجلس والعالم، من يطمع بالآخر؟
ينظر العالم إلى دول مجلس الخليج العربي بصفتها منبع للثراء الفاحش “ففي أسفل كل منزل خاص بمواطني الخليج؛ ثمة بئرًا للنفط” كما يتم تداوله لدى العامة، لاسيما في الدول الجارة الفقيرة. انعكس ذلك على السياسيات الخارجية للبلدان التي لا ترتبط معها بعلاقات حميمية وصداقات مجتمعية بقدر ما ترتبط معها بعلاقات سياسية واقتصادية، أغلبها قائمة على المنفعة.
وتنظر دول المجلس إلى العالم بأنهم منفذي خدمات، وتعتمد عليهم للمساهمة في تحقيق رؤاها الوطنية والعمل على تحقيق التنمية، كما أنها بحاجة دومًا لأصحاب الكفاءات لاسيما أصحاب الحرف اليدوية وأصحاب الكفاءات الأمنية والصحية والتربوية، وذلك لمحدودية تعدادها السكاني من جهة، واعتماد الكثير من مواطنيها على الأعمال الإدارية والتي لا تحتاج في الغالب إلى مجهود بدني.
احتياج دول المجلس إلى الأيادي العاملة الأجنبية، أنتج ما يُعرف فيها اختلالات في التركيبة السكانية، هذه الاختلالات -إلى جانب كنهم محط أنظار الطامعين- أشعرتهم دومًا بمخاوف أمنية وبأنهم مهددين على الدوام، لاسيما من إيران التي تعادي المملكة العربية السعودية من جهة، وتحاول تكريس تبعية دولًا من المجلس أو من المنطقة العربية المحيطة بالمجلس، فيما تحاول السيطرة على الجزر المطلة على مضيق هرمز وتعدّت ذلك لدعم مليشيا في اليمن لتهديد التجارة النفطية دول المجلس واستهداف سفنها النفطية في مضيق باب المندب، وكذا تهديد أمنها الحدودي المطل على الجنوب السعودي.
النفط الذي يتواجد بوفرة في دول المجلس منحها الاستقرار الاقتصادي، لكنه لم يمنحها الاستقرار الأمني، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الفردي، فأغلب مواطني الخليج الذين يزورون دولًا عربية أو آسيوية، يبقون مهددين على الدوام، مُخفين انتمائهم لدول المجلس حتى لا يتعرضوا لأي خطر جسدي، فهم على الدوام مطمع للمتربصين الأجانب.
هذه النظرة الجمعية في الغالب على مواطني دول المجلس -وأحيانًا على الدول برمتها- عزّزت من الترابط المجتمعي تجاه بعضهم، وأثرت بشكل أو بآخر من سياسة دول المجلس مع أشقاءه وأصدقاءه، وزادت من مخاوفهم تجاه أمن دولهم، وهو ما أدى إلى التأثير على شكل ونوع علاقاتهم الخارجية مع دول العالم.
مستقبل دول المجلس
يعتمد المستقبل في العادة على دروس الماضي وأحداث الحاضر، فالنتائج الحالية هي عبارة عن أسباب كانت تحدث في الماضي، وما يحدث الآن سيكون سببًا لنتائج مستقبلية. على سبيل المثال، اتجاه دول المجلس في التعامل مع أحداث الربيع العربي كان سببًا لعقد قمة الرياض الأول في 23 نوفمبر، وكان نتيجة للأزمة السياسية الفريدة التي شهدتها دول المجلس بعد سحب ثلاثة أعضاء من دول المجلس (المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين) سفراءهم من دولة قطر في 5 مارس 2014.[2] عللت الدول التي سحبت سفراءها من قطر بالقول إنه من بين دوافع ذلك القرار “المحافظة على أمن واستقرار دول المجلس، الذي نصت الاتفاقية الأمنية الموقعة بين دول المجلس على أنه مسئولية جماعية” وأيضًا “الالتزام بالمبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر، وعدم دعم كل من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد سواء عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي وعدم دعم الإعلام المعادي[3].
سبّب ذلك الموقف نتائج كادت أن تكون كارثية على مستقبل دول المجلس من حيث تفكك منظومته، إلا أن جهود دولة الكويت أثمرت لعودة اللحمة الخليجية مجددًا في 16 نوفمبر 2014 عندما أعلنت الدول الثلاث عودة سفرائها إلى الدوحة إثر قمة خليجية استثنائية لم يعلن عنها سابقا[4] لكن الأمور لم تحل نهائيًا ففي 5 يونيو 2017 أعلنت الدول الثلاث قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وإغلاق المنافذ البرية مع قطر ومنع الطائرات القطرية من التحليق عبر أجواء هذه الدول والنقل البحري إلى قطر عبر موانئها.[5] إلى أن تمكنّت الكويت أخيرًا من رأب الصدع الخليجي والعربي الذي شاركت به مصر، عبر الاتفاق في قمة مجلس التعاون الخليجي التي انعقدت في المملكة العربية السعودية يوم 5 يناير 2021.[6]
ولعلنا ندرك أن الأزمة السياسية داخل دول المجلس انتهت، لكن ما حدث من المرجح أن يؤدي إلى أزمة ثقة بين دول المجلس، لاسيما مع مواصلة الدول موضع الخلاف بسياستها الخارجية، سواء بدعم الإسلاميين من دولة قطر، أو بمعاداتهم واعتبارهم حركة إرهابية كما تفعل دولة الامارات العربية المتحدة[7].
الأمر الآخر هو الصراع الخليجي الإيراني، فالخلاف الذي نشأ بين دول المجلس الثلاث من جهة، وقطر من جهة أخرى هو العلاقات القطرية الإيرانية، حيث تتهم السعودية قطر بأنها تدعم “نشاطات الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران في محافظة القطيف من المملكة العربية السعودية، وفي مملكة البحرين الشقيقة وتمويل وتبني وإيواء المتطرفين الذين يسعون لضرب استقرار ووحدة الوطن في الداخل والخارج، واستخدام وسائل الإعلام التي تسعى إلى تأجيج الفتنة داخلياً كما اتضح للمملكة العربية السعودية الدعم والمساندة من قبل السلطات في الدوحة لميليشيا الحوثي الانقلابية حتى بعد إعلان تحالف دعم الشرعية في اليمن”[8]. وبعد 3 أيام فقط من المصالحة، قال وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في حديث لصحيفة “فاينانشيال تايمز” إن علاقات الدوحة بطهران لن تتأثر عقب إتمام المصالحة الخليجية مؤخرًا.[9]
وفق هذه المعطيات، يمكن التنبؤ بأن مستقبل المجلس سيشهد الكثير من المتغيرات خلال الفترة القادمة، إما بعلاقاته السياسية مع دول الجوار لاسيما إيران، وإما بعلاقاته داخل منظومة المجلس، فإذا ما استمرت قطر في علاقتها مع إيران فإن الاحتمالات أمامنا هي التالي:
- التوصل لصيغة اتفاق مشترك بين دول المجلس وإيران يعزز من علاقة الجوار
- انقسام منظمة المجلس إلى ثلاث تكتلات كالتالي:
- أحدها يقوم بتأييد العلاقات المباشرة مع إيران، تقوده دولة قطر وقد تنضم إليه دولة الكويت
- ثانٍ يؤيد التطبيع مع الكيان الصهيوني، تقوده دولة الامارات العربية المتحدة وقد تنظم إليه مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية
- أخر يقف على الحياد وهي سلطنة عمان
هل يمكن للعمل السياسي أن يعيق وحدة دول المجلس؟
تتسم مجتمعات دول المجلس بالطابع البدوي، وهو الطابع الذي لا يمكن أبدًأ النظر إليه من زاوية سلبية فهي نقطة قوة تتسم بها الكثير من الدول في المنطقة العربية، حيث في حال وجود أي خلاف بين أفراد أو جماعات على مختلف مستوياتهم، فمن السهولة بمكان أن يتم الاحتكام للعرف القبلي وإيجاد الحل بسهولة، ناهيك عن أن دول المجلس تتشابه في مورثها الاجتماعي والحضاري والثقافي وكذلك في اللغة واللهجات المحلية والنسيج الاجتماعي المترابط وسهولة الانتقال من منطقة جغرافية إلى أخرى.
ولقد عمل التاريخ البشري لأبناء شبه الجزيرة العربية على تعزيز وتكريس وحدة مجتمعات دول الخليج العربي بالذات، وكان هذا هو الأساس في إنشاء منظومة المجلس ككيان سياسي يُعزّز من وحدة دوله.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نغفل هذه الخصائص والسمات المجتمعية عند الحديث عن مستقبل دول المجلس، فالجوانب الاجتماعية والعادات والتقاليد بين دول المجلس شكلت تماسكًا اجتماعيًا مهمًا يجعلها قادرة على تجاوز أي خلافات سياسية تنشأ بينها.
إلى جانب أن التهديدات والأطماع التي تحيط بدول المجلس والتحذيرات من فقدان مصدر ثروتها الأساسية بعد تراجع الطلب العالمي على النفط، لا تميّز بين هذه أو تلك، وبإمكان المخاوف دائمًا أن تؤدي إلى المزيد من الترابط المجتمعي والذي يعمل على تشكيل قناعات لدى العاملين في المجال السياسي، وهذا ما يمكن أن يتم المراهنة عليه أيضًا في حال نشوب أي نزاع جديد يُضعف منظومة المجلس.
الخاتمة
تحتاج منظومة مجلس التعاون الخليجي إلى إصلاحات في بنيتها التشريعية وإضافة تعديلات تجرم التحالفات المشتركة ضد أي دولة عضو في المجلس، فيما تحتاج إلى نصوص تجرّم أي فعل يهدف إلى التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أخرى أو يهدف لدعم جماعات تحاول الإضرار بأمن ومصالح أي دولة في المجلس فهذا كان من ضمن أبرز الخلافات الداخلية في دول أعضاء المجلس، وسيبقى دومًا المؤثر الرئيس لأي أزمة خليجية قادمة.
هوامش
[1] الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، النظام الأساسي، رابط: https://www.gcc-sg.org/ar-sa/AboutGCC/Pages/Primarylaw.aspx
[2] 5 مارس 2014، موقع بي بي سي العربية، خبر بعنوان: سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر
[3] المصدر السابق
[4] 16 نوفمبر 2014، موقع فرانس 24 / AFP، خبر بعنوان: اتفاق على عودة سفراء السعودية والإمارات والبحرين إلى الدوحة
[5] 5 يونيو 2017، موقع وكالة الأنباء السعودية واس، بيان بعنوان: سياسي / المملكة تقطع العلاقات الدبلوماسية والقنصلية مع دولة قطر
[6] 5 يناير 2021، موقع بي بي سي العربية، تقرير بعنوان: المصالحة الخليجية: طي صفحة الخلاف وإعادة العلاقات الكاملة بين قطر ودول المقاطعة
[7] 16 يونيو 2017، موقع الجزيرة نت – ميدان، تقرير بعنوان: جذور العداء.. لماذا تنفق الإمارات ميزانيات ضخمة لحرب الإسلاميين؟
[8] 5 يونيو 2017، موقع وكالة الأنباء السعودية واس، بيان بعنوان: سياسي / المملكة تقطع العلاقات الدبلوماسية والقنصلية مع دولة قطر
[9] 8 يناير 2021، موقع صحيفة فايناشيال تايمز، تصريح بعنوان: Qatar says deal to end Gulf crisis will not change its ties with Iran
التعليقات مغلقة.