في جنوب اليمن، أسهمت الأغاني الوطنية في إذكاء الحماس الشعبي ضد الاستعمار البريطاني. وكانت من أبرز تلك الأغاني أغنية “برع يا استعمار“ للفنان محمد محسن عطروش، التي أصبحت رمزًا للنضال والتحرر.
أما في شمال اليمن، فقد كان لها حضورًا مؤثرًأ أثناء قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962. إذ أسهمت في رفع الروح المعنوية للثوار وإيصال رسائل الثورة إلى عامة الناس. ومن أشهر تلك الأغاني أغنية “أنت يا أيلول فجري“ للفنان أيوب طارش التي خلدت ذكرى الثورة في وجدان اليمنيين.
استمرت بعد ذلك في مواكبة الأحداث وتحولات المجتمع، وظلت حاضرة في مختلف الميادين.. سواء في الوعي الوطني أو في الحياة الثقافية والفنية والتعليمية. وقد حافظ اليمنيون جيلاً بعد جيل على تراث الأغنية الأصيلة، بوصفها جزءًا أصيلاً من هويتهم وتاريخهم.
أغاني اليمن عربيًا
عملت الأغاني على تجسيد هويتها الأصيلة بانتشارها على مدى واسع في كثير من الدول العربية. واستطاع بعض الفنانين اليمنيين اكتساح ساحة الفن العربي، فكان لها نكهة فريدة. من هؤلاء الفنان الراحل أبو بكر سالم، والفنان أحمد فتحي، والفنان محمد عبده وغيرهم. وقد تنوعت في معانٍ مختلفة وألحان متعددة لكنها ظلت متمسكة بنكهتها التراثية، فكانت للعشاق هيامًا، وللوطن دفاعًا، وللأعراس زفات. ومثلت كل شيء بالنسبة لليمنيين. فرغم تعدد واكتشاف الآلات الموسيقية، يظل العود اليمني سيد الآلات ورمزها التراثي.
وفي الآونة الأخيرة، ومع ظهور جيل جديد من الفنانين اليمنيين وتوسع المساحة الحرة في عالم السوشال ميديا، استطاع الفنانون إيصال لونهم الغنائي لمجتمع واسع. وقد لاحظنا انتشار الألحان اليمنية في كثير من الأغاني بمختلف البلدان العربية وإعادة غناء بعضها بأسلوب مختلف، وهذا يعود لثراء اللحن اليمني وتميزه.
لو تأملنا قليلًا الكلمات العظيمة للشاعر الثوري الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان وتلحين وغناء صاحب الحنجرة الذهبية الفنان أيوب طارش، حين غنّى النشيد الوطني اليمني:
“رددي أيتها الدنيا نشيدي”
عندها أصبحت أغناني اليمن تجري في عروقنا وطنيًا وتراثيًا حتى اليوم، ما دفع الناس لتخليدها بيوم يُحتفى به من كل عام.
يوم الأغنية اليمنية
يأتي يوم الأغنية اليمنية لتعزيز وحماية الهوية والتراث اليمني، وقد خُصص للاحتفاء بالأغاني اليمنية نتيجة للتفاعل مع المبادرة التي أطلقها عدد من الفنانين والناشطين الصحفيين ونخبة من المثقفين والمهتمين بالفن، والتي تصادف الأول من يوليو من كل عام. وقد لاقت تفاعلًا كبيرًا ورواجًا واسعًا عبر منصات التواصل الاجتماعي بين الشباب اليمني في الداخل والخارج، ردًا على الممارسات التي يستخدمها الحوثي ضد الفنانين وحفلات الغناء في المناطق التي يسيطر عليها. إلا أن اليمنيين استطاعوا أن يجعلوه يومًا فنيًا تم اعتماده رسميًا من قبل وزارة الثقافة والإعلام والسياحة. يتم الاحتفال به كلٌّ بطريقته؛ فمنهم من يعمل على إصدار أغاني جديدة في هذا اليوم، ومنهم من يحتفي بإقامة المهرجانات للتذكير بجذور الأغنية اليمنية التي تمثل الهوية بكل أبعادها. كما يشارك الناس فرحتهم بتغيير صورهم الشخصية على حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي بإطار يوم الأغنية اليمنية، تعبيرًا عن سعادتهم بهذا اليوم.
في هذا السياق، يعبر الموسيقار محمد القحوم عن انبساطه بتخليد الأغنية اليمنية التي تستحق الاحتفاء بها وبروادها، قائلًا:
“إن تخصيص يوم وعمل حملة شعبية وتفاعل الناس بهذا الزخم يعتبر مؤشرًا إيجابيًا ودليلًا على وعي المجتمع والناس.”
وأضاف: “سنظل نخدم فننا وتراثنا طوال السنة وليس ليوم الأغنية فقط، ففننا وألواننا الفنية تستحق أن تُقدّم للعالم وتستحق كل هذا الاحتفاء.”
كيف يُنظر إلى الأغاني اليمنية؟
تعتبر الأغنية اليمنية جزءًا أساسيًا من المفهوم الكلي للفن، وقد وُجدت لدى الإنسان اليمني البسيط والمسالم. إذ تحمل في رحابها دوافع تعميق الحب والسلام، فهي لم تأتِ من فراغ، وإنما هي نتاج فلسفة الإنسان اليمني المتطلع للحياة والمتغلب على الطبيعة وتقلبات الأوضاع السياسية.
يعبر الفنان أمين حاميم عن هذا اليوم بقوله:
“تستحق الأغنية اليمنية هذا الاحتفاء، كل يوم وليس يومًا واحدًا، لما لها من عمق تاريخي وتنوع ثري بشكل كبير، يجعلك ترى في المدينة الواحدة العديد من الألوان الغنائية، فما بالك باليمن ككل.”
مؤكدًا بذلك قيمة الأغنية اليمنية التي تعبر عن ثقافتنا وما بداخلنا من أحاسيس، وأنها رسالة حب من شعب يحب الحياة.
في السياق نفسه، يرى الفنان مرسيل طارش أن الأغنية اليمنية هي ثقافة وفرصة نعيشها بقصصها وألحانها:
“من الجميل أن يكون لدينا يوم مقدس مثل هذا اليوم، فنحن نشعر بعظمة فننا وعاداتنا وتقاليدنا الجميلة.”
ويعتبر طارش أن الأول من يوليو فرصة لإشهار الفن الذي يقدمه اليمنيون للعالم.. وإظهار إبداعات الشباب في البلد وخلق جو فني جميل.. يعبّر فيه كلٌّ بصوته وعزفه وفنه بطريقته الخاصة دون المساس بالمحتوى الذي يقدم. وأضاف:
“إن هذا الحدث يعد اندلاع شعلة الفن الذي نتمنى أن يستمر فيه الاهتمام بالمواهب والفنون التي تُكتشف خلال هذا اليوم أو غيره، ويبقى يوم الأغنية اليمنية شعار كل فنان ورمزًا لكل مبدع يريد أن يعبر بفنه بشكل جميل وملفت.”
كيف يمكن الارتقاء بالأغنية اليمنية؟
على الرغم من عراقة الأغنية اليمنية وشهرتها من خلال الأعمال الفنية التي قدمها فنانون ومبدعون كبار خلال السنوات السابقة.. إلا أن الأغنية اليمنية لا تزال تفتقر إلى كثير من المقومات الفنية والمهنية والتقنية المتعلقة بالصوت والتوزيع الموسيقي والمكساج. فما يزال اليمنيون محافظين على الطابع القديم في استخدام العود والصحن وغيرها من الآلات.. دون تطوير يواكب العصر.
في هذا السياق، يقول رئيس ميون للإنتاج الفني والإعلامي سام البحيري:
“إن الأغنية اليمنية باتت بحاجة ماسة إلى وجود الشعر الغنائي والإيقاعات الجميلة إلى جانب الآلات الموسيقية الحديثة، والملحن الذي يجيد المزج بين اللحن اليمني ومواكبة الألحان التي ترتقي بها لتكون ثقافة عالمية.”
وأضاف: “إن ما يجعل الأغنية اليمنية مقتصرة على البيئة اليمنية فقط هو اللحن والأداء المحلي، والذي يفترض الخروج منه إلى خارج الصندوق لتصدير الأغنية خارجيًا حتى تنال المكانة المرموقة التي تستحقها كونها ضاربة في أعماق التاريخ.”
تظل الأغنية اليمنية هوية خالدة في قلب كل يمني. فهل يا ترى ستنال حقها من التطوير والاهتمام لترتقي إلى مستوى عالمي، أم ستظل تتوارث بطابعها التقليدي إلى الأبد؟
اقرأ أيضًا.. في تشريح الأغنية اليمنية