عند مطالعة الكتب التي درست ووثقت نقوش المسند، سنجد النقوش فيها مكتوبة بخط اليد، إذ لم يكن متاحًا رقنها إلكترونيًا.. لقد كان ذلك حتى نهاية القرن العشرين، لكن ليس بعد هذا التاريخ: فبراير 2007.. وستتذكر الأجيال هذا الاسم جيدًا: سلطان المقطري.
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، شغلت فكرة تطوير الخطوط العربية الرقمية ذهن سلطان المقطري، فكان أول إنتاج له من “خطوط سلطان” في 2003، وهو الخط الذي اكسبه سمعة وشهرة في المجتمع الرقمي.
إلا أن شغف المقطري بقلم المسند الحميري ومهمة إحيائه واتاحته رقميًا ظلت هاجسًا ملحًا، فالمسند ليس مجرد خط أو قلم يمني قديم، بل تاريخ وهوية، لهذا تطلب الأمر بضع سنوات وجهدًا كبيرًا لدراسته من جانب خبير الخطوط الشغوف، الذي أصبح ملمًا إلماما واسعاً به و بمراحل تطوره.
يقول لـ أنسم: “مرت مهمة تصميمه بمستويات عديدة: البحث النظري، والتحقق الميداني الواسع من تنوعات النقوش في المنطقة وخارجها، والمعالجة التقنية، وتصميم الحروف الرقمية المعيارية الممثلة للتجليات التاريخية لحروف المسند، كما خضع ذلك لجملة من اللقاءات مع المختصين في الحقل، والمتابعة الإدارية والمراسلات الإلكترونية”.
وتابع: “في 2006 كان خط المسند جاهزًا بعد تحقيقه واختباره وتمت اتاحته للاستخدام مجانًا.. الآن تتوفر لدي قرابة 11 نموذجًا رقميًا لخط المسند، أتمنى أن تعمل على تسهيل مهمة الباحثين والمهتمين الكتابة به وفقًا للتطور التقني للحواسيب والعالم الرقمي”.
في 2007 أدرج المسند ضمن الشيفرة الدولية الموحدة: يونيكود
يونيكود
المرحلة الأهم في إسهامات المقطري تجاه المسند كانت في فبراير 2007، بعد تقديمه (ورفيقه المترجم المصري: منصور كمال) طلب إدراج خط المسند ضمن الشيفرة الدولية يونيكود، “كان ذلك بجهود ذاتية تحت رعاية جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية إذ تم خلالها إدراج الكتابة الحميرية في الشفرة الدولية الموحدة (اليونيكود Unicode) في يوليو2007“، قال.
وأضاف لـ أنسم: “بهذا التشفير أخذت الكتابة الحميرية مكانها اللائق في المجتمع الرقمي العالمي، لتسهم في رفد المكتبة الجامعية الرقمية في كل أنحاء العالم، ودعم النشر الالكتروني المستخدم في طياته حروف المسند الحميري على نطاق واسع، ودعم قاعدة البيانات الإلكترونية والتناقل السريع لنصوص المسند على شبكة الانترنت”.
وعن الشيفرة الدولية الموحدة، يقول فهمي الباحث وهو خبير رقمي لـ أنسم: “إذا كنت بحاجة الى تخزين أي نصوص وأحرف على جهاز رقمي فأنت بحاجة الى استخدام نظام ترميز يفهمه الكمبيوتر، ليقوم بعرض اللغة أو الأحرف بالشكل المطلوب، وهناك العديد من أنظمة الترميز عالميًا، من أهمها نظام الـ UNICODE الذي يسمح بترميز عدد كبير من الأحرف واللغات عالميًا ليفهمها الكمبيوتر”.
وأضاف: “نثمن الجهود التي قام بها سلطان المقطري تجاه المسند وإدراجه ضمن الشيفرة الدولية، ما أتاح سهولة استخدامه على نطاق واسع ضمن الشبكة العنكبوتية، فنلاحظ صفحات السوشيال ميديا باتت ممتلئة الآن بحروف المسند دون أي إشكالات تقنية، حتى بات بإمكانك الكتابة به من جهازك المحمول”.
أقوم بكل الأعمال المتعلقة بالمسند مجانًا فأنا أراه رد دين للوطن الأم وتاريخه التليد
كيبورد مسند
لم تتوقف جهود المقطري مع المسند، ففي العام 2018 وضع لوحة مفاتيح افتراضية (كيبورد) تمكن أي مستخدم في العالم من الكتابة المباشرة بحروف المسند الـ 29، وفي نفس العام وضعت منصة أرشيف اليمن لوحة مفاتيح أخرى مستندةً على ثلاثة نماذج من خطوط المسند التي صممها المقطري، “أتمنى أن تساعد كثيرًا في كتابة البحوث والمقالات والترجمات والرسائل الإلكترونية”.
بالنسبة لخبير الخطوط وعاشق المسند فإن الاهتمام بهذا القلم التاريخي الذي يحتفظ بمكانته منذ آلاف السنين على الصخور وجدران المعابد والنصب التذكارية، ليست مسألة خاضعة للعرض والطلب، بل مهمة وطنية مقدسة، لهذا فقد عمل على تصميم كراس تعليمي أيضًا وتمت إتاحته مجانًا على الإنترنت لتعليم الأطفال المسند، “مايزال هذا منتج فردي ويحتاج إلى جهد مؤسسي لتطويره”، قال.
وأضاف لـ أنسم: “أقوم بكل الأعمال المتعلقة بخط المسند مجانًا ولا أتقاضى أي أتعاب أو توجيهات من أحد، فأنا أراه رد دين للوطن الأم وتاريخه التليد”.
ولد سلطان المقطري في 1962 بالمنصورة في مدينة عدن، وتلقى تعليمه هناك، غادر إلى موسكو في 1988 وتخرج من أكاديمية العلوم السياسية والعسكرية التابعة لوزارة الدفاع الروسية في 1992، وهو حاصل على ماجستير في علم الاجتماع أيضًا.
عشق الخطوط العربية منذ طفولته، ومارس تفاصيلها حد الإتقان، رغم انه لم يلتحق بأي مدرسة خطية أو معهد للتصميم، “أنا محظوظ بما يكفي لأكون مصمم إبداعي لخطوط عربية كثيرة” قال.
أنشأ المقطري مكتبًا للدعاية والإعلان وتصميم اللوحة الإعلانية، مستفيدًا من إمكاناته في الخط العربي، “كتبتُ على القماش والحجر والحديد والبلاستيك والورق المقوى بالحبر والطلاء والطباشير، ونحت حِرفي بالآركيت اليدوي، والمنشار الكهربائي.. استمتعت كثيراً بالعمل اليدوي”.
منتصف التسعينيات من القرن الماضي بدأت علاقة المقطري بالحاسوب والانطلاق نحو تجربة جديدة مع الحرف الطباعي، يقول لـ أنسم: “نظرًا لأنني أحب الحروف، فضلت صنعها بالحاسوب بنفسي.. هذه هي الطريقة التي تم بها إنشاء أول خط رقمي لي: خط سلطان”.
وأضاف: “شاركته مجانًا مع المجتمع الرقمي في 2003، إنتشر الخط كثيرًا لدرجة أنني كنت أطير فرحًا عند رؤيته على لوحة إعلانية أو غلاف كتاب أو صحيفة أو شاشة تلفزيون، أو مراسلات حكومية”.
في 2003 انشأ سلطان موقعًا الكترونيًا sultanfonts.com لعرض أعماله التي تتميز بالحداثة والابتكار حتى بات يعرف اسمه الآن كأحد مصممي الخطوط العرب البارزين والأوفر انتاجاً، وحصد المقطري العديد من الجوائز وشارك بالعديد من المؤتمرات والفعاليات المتعلقة بالخط العربي والمسند أيضًا، وما يزال مستمرًا بانتاجه، “الآن أصبح لدي مجموعة خطية تتجاوز المئة خط”.
التعليقات مغلقة.