صالحة عبدالله: حين تصبح الأم وطنًا للجراح

تعرف على قصة صالحة عبدالله في عدن، المرأة التي تواجه الظلم بصمود وتستمر في المطالبة بالعدالة لأبنائها، وسط مجتمع يختبر ضميره كل يوم.

صالحة عبدالله


قصة صالحة عبدالله

على عتبة الثلاثة والسبعين عاماً، تقف صالحة عبد الله يحيى حسن ليس كامرأة تنتظر هدوء خريف العمر بل كمقاتلة صلبة في قلب عاصفة لم تهدأ منذ عام 2020. جسدها الذي أثقلته السنين يستند إلى عكاز لكن روحها تستند إلى إرادة فولاذية ترفض الانكسار. قصتها ليست مجرد مأساة عائلية بل هي مرآة لوطن بأكمله تعكس واقع العدالة المفقودة وصمود الأمهات في وجه القهر.

كل شيء بدأ في ذلك العام المشؤوم حين داهمت قوات مكافحة الإرهاب في عدن حياة أسرتها الهادئة بهدف الاستيلاء على أرضهم لم يكن الأمر مجرد نزاع بل كان عملية اقتلاع وحشية ، اختُطف ابنها أحمد (44 عاماً)، وقُتل ابنها حسن (38 عاماً) بدم بارد، بينما ابتلع الغياب ابنها الثالث محمد (31 عاماً) تاركاً خلفه فراغاً لا يملؤه سوى الدعاء لم يكتفوا بذلك بل أحرقوا منزلها مرتين ونهبوا ذكرياتها وأطلقوا الرصاص على زوجها المسن، منتهكين حرمة البيت وقدسية العائلة.

منذ ذلك الحين تحولت حياة صالحة إلى رحلة كفاح يومية.. لم تعد جدران بيتها المتبقية تسع ألمها فخرجت به إلى الشارع. أصبحت الوقفات الاحتجاجية تحت شمس عدن الحارقة جزءاً من روتينها. هناك تقف لساعات طويلة، امرأة مسنة تتحدى التعب واليأس رافعةً صور أبنائها كأنها ترفع راية قضيتها أمام عالم أصم.


ابنة صالحة عبدالله ترفض الصمت

في خضم هذا الجحيم برزت ابنتها ‘حمدة’ كشعلة أمل عنيدة. رفضت الصمت وحملت على عاتقها مهمة متابعة قضية إخوتها في أروقة القضاء المظلمة. لكن الأيادي التي بطشت بإخوتها لاحقتها تعرضت للملاحقة والتهديد.

وفي إحدى الليالي هجموا على ما تبقى من منزلهم بحثاً عنها.. نجت بأعجوبة وأُجبرت على الفرار من عدن لتواصل من المنفى. رحلة البحث عن عدالة تبدو بعيدة المنال. بقيت صالحة وحيدة في الميدان تحمل جرح ابنتها الملاحقة فوق جراح أبنائها.

حين تخونها الكلمات للتعبير عن حجم وجعها تلجأ صالحة إلى الشعر سلاحها الأخير. في إحدى الوقفات والدموع ترسم خطوطاً على خديها المجعدين ارتفع صوتها المبحوح بقصيدة ولدت من رحم الألم:

يا نور عيني وكبدي والفؤاد .. كم طالت الغيبة وما مر البعاد
حلمت إني أضمك وحضنك .. وربي يحقق لي المراد
محمد نبض قلبي وأحمد بالحشا.. أدعي رب العباد ينجي عيالي

كانت هذه الأبيات أكثر من مجرد شعر كانت صرخة أم وشهادة حية على أن روحها لم تمت وأن قلبها لا يزال ينبض بالأمل والدعاء.

اقرأ أيضًا..ميراث المراة في اليمن.. فيديو لمعاناة امرأة


الأثر النفسي لاستمرارية الفقد

الأثر النفسي على صالحة وأمثالها لا يتشكل من حادثة الفقد وحدها، بل من استمراريته. تشرح الأخصائية النفسية سهام محفوظ مسؤولة المساحة الآمنة في اتحاد نساء اليمن، هذه الحالة المعقدة.. الإخفاء القسري يضع الأم في حالة نفسية تعرف بـ’الحزن المعلق’. هذا النوع من الحزن يختلف جذرياً عن الحزن الطبيعي بعد الوفاة.. حيث تبقى الأم عالقة بين احتمالين متناقضين:

الأمل بأن يكون الابن حياً

والخوف من أن يكون قد فُقد إلى الأبد فلا يقين يتيح لها التكيف ولا نهاية تسمح لها بالتصالح مع الواقع.

وتضيف محفوظ أن هذا الترقب الدائم يستنزف الطاقة النفسية ويؤثر على الشعور بالأمان. مع التقدم في العمر يتغير شكل المعاناة.. نلاحظ أن كثيرًا من الأمهات يبدأن بالانسحاب الهادئ وتظهر أعراض جسدية كالأرق والآلام المزمنة.. ليس لأن الألم ازداد بل لأن الجسد لم يعد قادراً على حمل الضغط النفسي الطويل. إن أخطر ما تواجهه هذه الأمهات ليس الحزن وحده، بل الإنهاك النفسي المزمن الناتج عن العيش في حالة انتظار بلا فائدة.


حين ينهار المسار القضائي

قضية أسرة صالحة كما تصفها المحامية هدى الصراري وتقارير حقوقية وصلت إلى نقطة من الانهيار الإجرائي البلاغات والتحقيقات توقفت والملفات تُشتت والأهل يقفون أمام أبواب نيابات ومحاكم بلا جدوى.

وتوضح الصراري أن هذا الشلل القضائي ليس صدفة بل نتيجة لواقع معقد السلطة الأمنية في عدن مقسمة. وحين تكون أطراف متورطة من قوات نافذة يحدث ضغط على النيابات والقضاة و تُحتجز الملفات، وتُفقد الأدلة ويصعب حماية الشهود.

وتؤكد أن حالة صالحة ليست استثناءً بل هي جزء من نمط متكرر من إفلات مرتكبي الانتهاكات من المساءلة بسبب سيطرة أمنية موازية وضعف آليات المحاسبة.


كفاح محفوف بالمخاطر

هذا الكفاح من أجل العدالة لا يخلو من ثمن باهظ.

أمة السلام الحاج رئيسة رابطة أمهات المخفيين والمختطفين في اليمن تسلط الضوء على حجم المعاناة: “تعكس قضية صالحة الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمهات والقهر الكبير من عدم الإنصاف لقد طرقن كل الأبواب دون جدوى. بل على العكس يواجهن التنمر ووصمهن بأنهن أمهات إرهابيين.

وتضيف الحاج أن المخاطر تتجاوز الوصم الاجتماعي حيث تواجه الأمهات وبناتهن التهديد والكلام الجارح والمضايقات اللفظية.. حتى أنهن تعرضن لمحاولة الدهس بالسيارات، هذا إلى جانب ضيق العيش وصعوبة الحصول على المعونات والرعاية الصحية.

قصة صالحة ليست قصة فردية هي واحدة من بين أمهات لـ 38 مخفياً قسراً في عدن وحدها يعانين جميعاً من نفس العنف النفسي ونفس التعب الجسدي ونفس الحزن المعلق. إنهن جيش من الأمهات المكلومات يوحدهن الألم والأمل ومن بين هؤلاء الأمهات الصابرات رحلت ثلاث منهن عن عالمنا استسلمت أجسادهن المنهكة للتعب والمرض في طريق البحث عن أبنائهن ومضين إلى ربهن قبل أن يرين فلذات أكبادهن أو حتى يسمعن خبراً يطفئ لهيب الشوق في قلوبهن رحلن وهن يحملن صور أبنائهن تاركات وراءهن وصية لكل من بقي: لا تتوقفوا عن البحث.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.