في قرية “خاب” الواقعة على تخوم مدينة دمت بمحافظة إب، وُلد فؤاد مسعد في سبتمبر من عام 1977. كانت تلك البقعة الصغيرة، المغمورة بخضرة “وادي بَنا” والمفعمة بذكريات الصراعات السياسية في قلب ما عُرف بـ “المناطق الوسطى”.. هي الحاضنة الأولى لطفولته، والمرآة التي انعكست فيها بذور وعيه المبكر. هناك، حيث كانت “دمت – التي أُلحقت إداريًا بمحافظة الضالع عام 1998” تشق طريقها من ماضٍ ملتهب إلى حاضر واعد، بدأ فؤاد يتشكّل: إنسانًا، شاعرًا، وصحفيًا.
فؤاد مسعد بين رماد الحرب وخصوبة اللغة
نشأ فؤاد في بيئة ريفية بسيطة تحيطها الطبيعة من جهة وتُثقّلها تبعات التنازع السياسي من جهة أخرى.
هذه التناقضات كانت على نحو غير متوقع؛ كانت سببًا في تشكيل وعيه المبكر. فمع تحوّل “دمت” من ساحة اشتباك إلى منطقة استقرار، بدأت المدارس تُفتح والتعليم ينتشر. وأصبح فؤاد، بحسب روايته، من أوائل الذين دفعهم هذا التحول للالتحاق بالتعليم النظامي، وفتح أبواب المعرفة.
في المدرسة بدأت علاقته بالشعر، وتحديدًا عبر الإذاعات المدرسية. كان يُجيد قراءة القصائد الفصحى ما جعله محط أنظار أساتذته الذين تنبّؤوا له بمستقبل أدبي مبكر.. وعلى رأسهم الشيخ محمد مثنى الربية، الذي دفعه دفعًا نحو كتابة أولى قصائده.
في نهاية التسعينيات، وأثناء دراسته الثانوية، بدأ فؤاد يخط أولى أبياته، ومنها:
تلوت الشعر في دربي حُداءً
قوافيه لدى الهيجا سِـناني
وعِفْتُ الشعر تمداحًا رخيصًا
بسطتُ القول وضاح المعاني
إقرأ أيضًا علاء الدولي قصة تُروى من خلال عدسة الكاميرا
فؤاد مسعد الشاعر والصحفي
بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، التحق فؤاد بكلية التربية في الضالع، قسم اللغة الإنجليزية – جامعة عدن، حيث بدأ مسيرته الأكاديمية التي أرست دعائم رغبته في طلب المعرفة. لاحقًا، قرر مواصلة دراسته العليا في مجال الإعلام، فالتحق بقسم الصحافة بكلية الإعلام – جامعة عدن، حيث يدرس حاليًا لنيل درجة الماجستير.
بدأت محاولاته الشعرية في أواخر المرحلة الثانوية، وتطورت أثناء دراسته الجامعية، حيث كتب أولى قصائده باللغة العربية الفصحى. كانت بداياته تقليدية على النمط العمودي الخليلي، كما هو شائع لدى كثير من شعراء تلك الفترة.
يمزج فؤاد في شعره بين العاطفة والهمّ الإنساني، مؤمنًا بأن الشعر لديه لا ينفصل عن واقع الإنسان اليمني، المفعم بالقلق والحروب والانقسام. لكنه لا يميل إلى المباشرة، بل يترك للمجاز والصورة الشعرية دورًا في تجسيد الألم والحنين والغربة.
عرف فؤاد بقصائده التي تلامس وجدان القارئ، ومن أقربها إلى قلبه قصيدة “وطني الحبيب”، وهي القصيدة الوحيدة التي قرر إدراجها من بين نصوص كُتبت خلال الحرب، مستبعدًا غيرها بسبب تباين اللغة والبناء الفني بينها وبين قصائد المرحلة السابقة.
يقول فؤاد إن العمل الصحفي أثّر على لغته الشعرية، لكنه لم يُلغِها، بل صقل أدواتها. فالفارق واضح – حسب قوله – بين القصائد التي كتبها قبل دخوله عالم الصحافة وتلك التي كتبها بعدها، من حيث البناء والتناول والصورة. ورغم أن الصحافة تعتمد اللغة المباشرة، فإن الشعر ظل لديه مساحة للبوح الرمزي والتعبير العميق.
بسبب الظروف المعيشية، اضطر للعمل بعد التخرج، فاشتغل بالتدريس لعدة سنوات، قبل أن يتفرغ للعمل الصحفي الذي استهلك وقته وجهده، وهو ما انعكس سلبًا على حضوره الشعري، حيث تراجع لصالح حضوره الصحفي كمُتابع ومُحلّل للأحداث اليومية.
ورغم بدايته في الكتابة من خلال المقالات الثقافية والأدبية، إلا أن التدرج في العمل الصحفي المهني أبعده – ولو قسرًا – عن القصيدة، مكتفيًا بكتابة قصيدة أو اثنتين سنويًا، كما يقول.
ديوان “مواعيد الغروب”.. وثيقة وجدانية
رغم انقطاعه الطويل عن نظم الشعر، قرر فؤاد أن يمنح قصائده فرصة جديدة للحياة، فجمع ما تيسّر منها في ديوان حمل عنوانًا دلاليًا عميقًا: “مواعيد الغروب”. يقول إن الغروب ليس نهاية بل جزء من دورة الزمن، فكل غروب ينذر بشروق جديد، وكل أفول يحمل وعدًا بالضياء.
الديوان، المقرر أن يُشارك به في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2026، يضم قصائد كُتبت بين عامي 2002 و2012، ويتنوع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، مع تناول وجداني ووطني، أبرزها القضية الفلسطينية، التي حضرت في أكثر من نص، إلى جانب قصائد في الرثاء والتأملات الذاتية.
ومن بين القصائد، تبرز “بوح القصيدة” كأقربها إلى قلبه، إذ يعتبرها عودته الحقيقية إلى الشعر بعد سنوات من التوقف، جاءت بعد إلحاح أصدقاء دفعوه لكتابة قصيدة لإحدى الفعاليات، فكانت النتيجة نصًا أعاد الصلة بينه وبين القصيدة.
تجربة النشر والتحديات
لم تكن رحلة النشر سهلة. فبسبب الحرب وتراجع دور النشر المحلية وارتفاع تكاليف الطباعة، ظل “مواعيد الغروب” حبيس الأدراج لأكثر من عامين. خرج إلى النور عبر “دار إبداع كاتب” في مصر، التي تعاملت معه بمرونة وتفهّم، ما سهّل عملية النشر.
وفي ما يخص الكتابة الشعرية زمن الحرب، يقرّ فؤاد مسعدأن تلك المرحلة لم تكن خصبة له من الناحية الشعرية. إذ كتب خلالها قصائد قليلة لم يُدرج منها في الديوان سوى “وطني الحبيب”.
الشعر والصحافة.. لغتان لوجع واحد
يؤمن فؤاد مسعد بأن الصحافة، رغم أنها منحته مساحة للتعبير عن هموم الناس. إلا أنها قيّدته شعريًا بسبب طابعها المباشر والزمني، على عكس الشعر الذي يتيح مساحة أرحب للبوح والتأمل. ومع ذلك، ألهمته بعض التقارير والحوارات الصحفية لكتابة قصائد، كما حدث خلال إعداده مادة عن الشاعرة لينا أبو بكر، ما دفعه لكتابة قصيدة عن مذبحة صبرا وشاتيلا مواكبة لقصيدتها حول ذات الحدث.
المشهد الشعري اليمني.. بين الانقسام والغربة
يعرب فؤاد مسعد عن أسفه لما آلت إليه أوضاع الشعراء والمثقفين في اليمن، ويرى أن الحرب لم تُدمّر البنية السياسية والاجتماعية فقط، بل مزّقت النسيج الثقافي أيضًا، وأجبرت كثيرًا من المبدعين
على التنازل عن أدوارهم، سواء بالاغتراب أو الخضوع لسلطات الأمر الواقع أو الانكفاء على الذات.
ويضيف: “الشعر في مثل هذه الظروف يفقد جزءًا من رسالته التنويرية، وينحصر في التعبير عن الألم”.
بين الأمل والطموح
لا يزال فؤاد مسعد مؤمنًا برسالة الكلمة، في الشعر أو الصحافة، مستلهمًا مقولة الشاعر عبدالعزيز المقالح:
“سنظل نحفر في الجدار…
إما فتحنا ثغرة للنور
أو متنا على وجه الجدار”.
ويطمح إلى إصدار مؤلفين جديدين: “كتابات على جدار الثورة” و”حروب الهادوية في اليمن”، إلى جانب استكمال رسالة الماجستير. ويرى نفسه بعد عشر سنوات كاتبًا شاملًا يمزج بين الشعر والمقالة والبحث، إن أُتيح له العمر والظروف، على حد تعبيره.
وفي كل ما يكتبه، يبقى هدفه الأسمى تعزيز قيم الجمال والمعرفة، والمساهمة، ولو بكلمة، في إعادة الاعتبار للثقافة اليمنية التي قاومت ولا تزال محاولات التغريب والتشويه.