حين تصبح الحرب هي الملاذ

تصبح الحقيقة أثقل من القدرة على الحياة.

ماري كولفن
فيلم A Private War ليس عن ماري كولفن وحدها، بل عن الحرب التي تنشب  داخل كل صحفي… قراءة نقدية لفيلم A Private War من واقع صحفي يمني في مناطق النزاع


عندما توقفت عند عنوان الفيلم A Private War – حرب خاصة، وتحديداً عند أداة التنكير “A”، أدركت فوراً أن هذا الحرف الصغير قد يحمل عبء القصة بأكملها.
إنها ليست الحرب بمعناها العسكري والجماعي، بل هي حرب واحدة من نوع خاص جداً؛ حرب فردية، حميمية، ومدمرة، تدور داخل جمجمة الصحفي، بالتوازي مع القذائف التي تتساقط في الخارج.

ماري كولفن
فيلم A Private War عن ماري كولفن

مرآة ماري كولفن: حين يصبح الواقع شخصيًا

بصفتي صانع أفلام، وعملت إلى جوار العديد من الصحفيين الميدانيين في توثيق الوجع الإنساني في اليمن خلال فترة الحرب، أجد في قصة ماري كولفن مرآة مرعبة لواقعنا. هذا الفيلم ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو تشريح نفسي لجيل كامل من الصحفيين وصنّاع الأفلام الذين وجدوا أنفسهم — كما قالت ماري في الفيلم:

«نحن نكتب، بشكلٍ مأساوي، ما يشبه نعينا الخاص، ونحن لا نزال على قيد الحياة.»


بين الشجاعة وإدمان الخطر

يغوص الفيلم ببراعة في تلك المنطقة الرمادية بين الشجاعة وإدمان الخطر. فنحن لم نكن نذهب إلى الجبهات فقط لننقل الحقيقة، بل لأننا — وبشكل مأساوي — لم نعد نصلح للحياة الطبيعية التي يعيشها غيرنا من البشر، ويحلم بها كل شاب. في أحد أكثر الحوارات دقة، يصرخ شون في وجه ماري:

«لقد طلبت منكِ التوقف عن ذلك منذ وقت طويل، لكنكِ مثل العُثّة التي تنجذب نحو لهب الضوء.»

لكن، هل الأمر مجرد إدمان للإثارة؟


الإصابة الأخلاقية: الجرح غير المرئي

تكشف الدراسات الحديثة حول صحافة الحروب أن ما يدفع المراسلين إلى تكرار الارتماء في الخطر هو غالباً ما يُعرف بـ: Moral Injury – الإصابة الأخلاقية

هذا الجرح يصيب الضمير عندما يشاهد الصحفي أهوالاً وجرائم لا يستطيع منعها، أو عندما يشعر بالذنب لأنه نجا بينما مات من كان يصوّرهم.

هذا الشعور يفسّر سلوكيات ماري التدميرية: الإفراط في الشرب، العلاقات العبثية العابرة، والمحاولة المستمرة للعودة إلى الخطر.

ورغم ذلك، ترفض ماري التشخيص قائلة:

«اضطراب ما بعد الصدمة هو ما يناله الجنود.»

لكن الحقيقة أن الضغط النفسي الذي نعيشه نحن الصحفيين وصنّاع الأفلام لا يقل قسوة.

لقد أصبحنا نبحث عن حتفنا، كطريقة لا واعية لكتابة نعينا الخاص، تكفيرًا عن ذنب أخلاقي تجاه من تركناهم خلفنا.

حين تصرخ ماري بحدة على الطبيب في حمص:

«أريد من الناس أن يعرفوا قصتك!»

كانت تحاول، بيأس، أن تعطي معنى لموتهم… ولموتها المحتمل.


الفراغ العاطفي كضرورة سردية

في سياق هذه الحرب الداخلية، يصوّر الفيلم الإفراط في الشرب، والتدخين، والتجارب العاطفية الفاشلة، كضرورة سردية قصوى.

إن عرض هذه اللحظات هو التجسيد البصري للفراغ العاطفي الهائل الذي يشعر به أشخاص مثلنا ومثل ماري.
نضحي بالسعادة الأسرية من أجل القصة.

حين تقول ماري بمرارة:

«أرغب أن أكون أماً، ويجب عليّ تقبّل حقيقة أنني ربما لن أصبح كذلك أبداً.»

وحين تعترف بأنها تخشى أن تشيخ، ولكنها أيضاً تخشى أن تموت وهي شابة، فهي تلخّص مأساة حياتنا الخاصة.

لقد سرق منا تتبّع القصص الإنسانية قدرتنا على الحياة العادية.


الصحفي المحلي: المأساة الأعمق

ينجح الفيلم في تشريح معاناة المراسل الغربي، لكن واقعنا كصحفيين محليين أكثر سوداوية. فماري كولفن — رغم كل ألمها — تملك ترف العودة إلى لندن، إلى طبيبها، إلى حياة يمكن تسميتها «طبيعية». كما قال أحد الصحفيين بمرارة:

معاهم بياس يحزنوا سع الناس. 

أما نحن، الصحفيين المحليين في مناطق النزاع، فنواجه معدلات أعلى من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) أوضاعاً معيشية قاسية ودخلاً لا يسد أدنى الاحتياجات الأساسية بالاضافة الى انعداماً شبه كامل لخدمات الصحة النفسية والجسدية. ببساطة:

الحرب هي وطننا.

في اليمن، وفي الشرق الأوسط منذ بداية الربيع العربي وحتى اليوم، أصبح الصحفي جزءاً من النسيج الممزق، لا مهرب له ولا نجاة من واقع يزداد بؤساً يوماً بعد يوم، وهو يغطي قصص جيرانه وأقاربه — وأحياناً قصته هو.

 


حين تصبح الحياة الآمنة غريبة عنا

الضغوط تجعل الحصول على لحظة حميمية، أو سعادة أسرية، مجرد حلم. تراجعنا العاطفي ليس خياراً، بل نتيجة حتمية لصراع لا ينتهي. نحن نجد أنفسنا في مواقع الخطر، لا لأننا اخترنا ذلك، بل لأنه لا مكان آخر نذهب إليه. ينتهي الفيلم وماري تدرك أنها قد لا تعود، ومع ذلك تصرّ على البث المباشر لتقول للعالم:

«إنها كذبة كاملة ومطلقة.»


مشهد يبلغ قمة التراجيديا والانتصار في آن واحد. لقد أصبحنا مثل ماري، نبحث عن حتفنا في مواقع الخطر، لا حباً في الموت، بل لأن الحياة الآمنة لم تعد تشبهنا.
لقد سرقت الحرب قدرتنا على عيش السلام الخاص. إن فيلم A Private War ليس فيلماً عن الحرب في سوريا أو سريلانكا أو ليبيا فحسب، بل هو فيلم عن حربنا الخاصة؛ الحرب التي تدور حين نفشل في الحفاظ على علاقة عاطفية،  وحين ننظر في المرآة فلا نرى إلا أشباح من قمنا بتصويرهم ونقل قصصهم. وكما قالت ماري في بداية الفيلم ونهايته، وبأقصى درجات الإدراك:

«أعتقد أن الخوف يأتي في النهاية، عندما ينتهي كل شيء.»

ونحن، في خضم تغطيتنا المستمرة، لا نسمح لهذا «الكل» أن ينتهي أبداً… لكي لا نضطر لمواجهة ذلك الخوف.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.