حوطتو بك بالشبزي…
جملة يستخدمها، يمنيون؛ بهدف إضفاء نوع من الحماية الروحية على الآخرين.
يعتقدون أن قولها تُساهم في بقاء الشخص آمنًا طيلة يومه، أو على الأقل، في المُهمة التي سيقوم بها.
على كل حال، الشبزي هو شاعر يمني يهودي اسمه سالم بن يوسف الشبزي، ويعرف بالحاخام موري شالوم شابازي، وهو حِبر، وشاعر، ومؤرخ، إضافة إلى كونه خياطًا ولد في منطقة نجد الوليد بالقرب من مدينة تعز -250كم من صنعاء- وقد قضى معظم حياته في صنعاء قبل أن يُنفى اليهود منها في أواخر القرن السابع عشر.
ولكونه واحد من أبرز رجال الدين اليهود فقد عمل قاض ومعلم وكان المشرف على عمليات الزواج في الطائفة اليهودية في اليمن، وكذا إجراء الختان للأطفال إلى جانب قيامه بمهام جامع الجزية من أعضاء الطائفة اليهودية ليقدمها إلى الحكام. وهو ما جعل الشبزي يحتل مساحة مهمة في معتقدات يهود اليمن الذين اعتبروه قديساً.
ولم يحظَ الشبزى بمكانة رفيعة عند اليهود فقط، بل عند عامة اليمنيين بمختلف دياناتهم، ونقلًا عن عبدالواسع الأدومي، أنه سمع الدكتور عبدالكريم الارياني، في مقيل المستشار حسين الحبيشي..
قال الدكتور الارياني:
كنا في مؤتمر شرم الشيخ، في مصر، فطلب مني “بيريز” رفات الشبزي
فقلت له: الشبزي ليس وليًا لليهود، وإنما للمسلمين أيضًا
ويعتقد اليمنيون ببركاته حتى الآن، ونظرًا لكونه ارتبط بعمليات الزواج والختان، فقد ارتبطت بركاته بهذه المسائل، ما دفع الكثير منهم لزيارة ضريحه ومنحه الهدايا “أبرزها العسل والسمن والبيض” فيما تقول ميسون الإرياني أن امرأة ذهبت لزيارته من ريمه وحتى تعز، 388 كم تقريبًا، وجلبت معها خروف واغتسلت ببركته لتحصل على مولود.
ليس ذلك فحسب، بل حتى أن الطفل الذي لا يرضع من أمة، أو يصاب بعله منذ الطفولة يتم غسلة في بركة الشبزي، والشرب من هذا الماء بهدف أن يتعافى الطفل، ووصل الأمر أن يأتي سُياح أجانب من خارج اليمن ومن معتنقي الديانة اليهودية لزيارة الضريح والتبرك به.
ما الذي يدفع الناس للاعتقاد بأشياء لا تبدو منطقية؟
في واحدة من مجموعات الفيس بوك التي تم انشائها في وقت قريب للحديث عن المعتقدات والتقاليد اليمنية القديمة، نشر يمنيون الكثير من المعتقدات التي تبدو صادمة، إذ هل يُعقل أن يقوم أحدهم بالتأكّد فيما إذا كان الطفل من نسله أم لا، عبر رمي حصى على صخرة تبعد حوالي 30 مترًا؟
القصة الشعبية تقول إن “حجر الزنوه” الواقع في تعز، منطقة ماويه، والمتواجد حتى الآن، يأتي الناس إليه لترمي الحصى، فإذا استقرت الحصوة على الصخر فهذا مؤشر جيد، ويعني أن من رمى الحجر هو ابن اباه، ولا شك في ذلك، بينما إذا لم تستقر الحصوة على الصخر فهذا مؤشر غير جيد، ما يعني أن الشخص كان نتيجة عملية جنسية لغير الأب، وهو ما يطلق عليه محليًا “زنوه” أي ابن زناء.
الأمر قد يبدو مُضحكًا لمن يستمع إلى هذا المعتقد في الوقت الراهن، لكن ماذا عن الناس الٌقدامى، هل تسبّبت هذه الصخرة بطلاق النساء مثلاً، أو رمي الأبناء إلى خارج المنزل لكونه ليس ابنه، وإن حدث، هل كان يتولّد عن هذا تفاقم أزمات، كأحداث قتل مثلًا، أم كان الناس متصالحون مع العمليات الجنسية خارج إطار الزواج وكانوا فقط يحاولون تحديد هوية الأب، كون الصخرة كانت بمثابة جهاز DNA على سبيل التوضيح.
من المتوقع أن تكون المنشورات أرشيف للباحثين ونقطة انطلاق للأبحاث حول التراث اللا مادي في اليمن
تبدو هذه القصص والمعتقدات التي يتم مشاركتها بحاجة إلى دراسة وجهد توثيقي كبير، بصفتها تراث لا مادي، ويتم تغذيتها بطريقة تفاعلية من الجمهور المشترك في المجموعة، فالتراث اللامادي اليمني غني، ومهم وهو مُعرّض في كثير من الأحيان للاندثار بسبب عدم وجود اهتمام رسمي حكومي لجمع وتوثيق هذه الفئة من التراث الشعبي، وكذا عدم تناقل هذه المواضيع بين الجيل الجديد وعدم المامهم بها، بعكس الجيل السابق الذي نشط في المجموعة بشكل يشد الانتباه نظرًا لذاكرتهم التي انتبشت فجأة لتبحث في تفاصيل الماضي وذكريات الطفولة في الريف اليمني الذي يُعد أكبر من المجتمع المتحضر، حتى مع الهجرة إلى المدينة التي عانت منها اليمن، ظل الكثير يحتفظ بكونه مزارع، ابن ريف.
خطرت في بالي فكرة الاستفادة من وسائل التواصل وفراغ الناس أمام الشاشات لخلق هذا التجمع
تواصلنا مع مؤسس المجموعة على الفيس بوك “معتقدات وتقاليد يمنية قديمة” هو محمد عطبوش، باحث في المعتقدات اليمنية والتاريخ القديم، قال بأنه كان يُخطّط مع عدد من الباحثين اليمنيين في الفولكلور لعمل نزول ميداني بعد أن يلتقوا خارج الوسائل التكنولوجية، وذلك بهدف جمع المادة من مختلف المحافظات، لكن غياب التمويل ثم جائحة كورونا حالت دون مواصلة المشروع.
خلال ساعات قليلة من تأسيس المجموعة وصل عدد الأعضاء إلى 2500 عضو وعضوة، ويرتفع بشكل ملحوظ ليصل العدد حتى نشر هذا التقرير إلى 5460 عضو وعضوة كما يرتفع معه “المشاركات العجيبة” حد وصف عطبوش، فقد قال أن أحد أصدقائه من عدن 382 كم عن صنعاء، ورغم إلمامه بالعادات والتقاليد المحلية إلّا أنه استغرب عند دخوله للمجموعة، فقط شعر بأنه “سائح سويسري وصل إلى مجاهل أفريقيا” بسبب غرابة المعتقدات والطقوس التي تم تناقلها.
ويضيف: لقد ساهمت البيئة في تشكيل الوعي اليمني، فمعتقدات المناطق الزراعية تختلف عن الصحراوية وكذا عن المدنية. وسط اليمن معظم المعتقدات متعلقة بالزراعة، وفي حضرموت متعلقة بالأولياء، وفي المدن الساحلية تجد أساطير هندية وحبشية، وهكذا… كذلك التحولات الطبقية وقدوم السادة، والهجرات، كلها أمور تساهم في تشكيل تصورات الناس للحياة والطبيعة والإنسان، وللعلاقات بينهم، وهي خطوة أولى متأخرة للأسف، نحو توثيق هذا الموروث ودراسته”.
موازين مختلّة:
في المشاركات على المجموعة، لا يمكنك إلا أن تجد أن التنوع اليمني وغزارة موروثه الشعبي يؤكد أن اليمن ثرية بالمعتقدات أكثر مما نظن جميعا، وإلا كيف يمكن أن نقوم بتفسير تنوع المصطلحات للمفردة الواحدة في القُرى اليمنية، علمًا أن المسافات بين القُرى تقاس أحيانًا بالأمتار وليس بالكيلومتر.
ليس المصطلح فقط، وإنما طريقة الحديث، والعادات والموروث، واللون الغنائي كذلك، ما قد يتنافى مع تأثير البيئة على الظروف المعيشية، فالمتعارف عليه أن الطقس والمناخ والطبيعة الجغرافية للمكان قد تؤثر في تشكيل المجتمع وعاداته وتقاليده وكذا تصرفاته، لكن ما يُحدث هُنا هو أمر مُغاير، ينبغي اخضاعه لمزيد من الدراسات والأبحاث.
عمق الفترة الزمنية تؤدي للاختلافات، سواء الاختلاف في استخدام المصطلح أم في الموروث ذاته، فالتاريخ المتراكم يزيد من تفسيرات المعتقدات
ولتقريب الرؤية، فإنه وعلى سبيل المثال، يعتقد أبناء إحدى الٌقرى أن قتل السحلية الصغيرة يأتي بدافع انتقامي لأنها، أي السحلية، كانت تنفخ في النار عندما حاول آل إبراهيم عليه السلام احراقه، بينما في قرية أخرى يعتقد أبناءها أن القتل هو عمل ديني لأن السحلية عندما تقوم بتحريك ذيلها فإنها تقوم بشتم النبي محمد عليه السلام.
في المقابل هناك قصص يتشابه ذكرها في مناطق مختلفة، وقد يبدو هذا التشابه ناتج عن توارث القصة أو دقة طرحها من قبل القاصين الأوائل، وللتوضيح فإنه وعلى سبيل المثال يتفق الكثير حول أن “ألفية الأرجل” قامت بعملية تبادل مع الثعبان، حيث منحت الثعبان عينيها وأخذت بدلًا عنهما أرجل الثعبان. الاختلاف هنا يكون بتسمية الدودة، فلكل منطقة اسم خاص بها، ما يثير الاستغراب: كيف انتقلت قصة المبادلة على الرغم من اختلاف التسمية، هل كان ينتظر الشخص حتى يرى الدودة ليتحدث عن قصتها؟
الفكرة رائعة، شكرا لعطبوش، وشكرا لكم على هذا التقرير المتميز!