استنزف هشام الحكيمي 17 عامًا من عمره وهو يساهم في رعاية حقوق أطفال اليمن عبر جهود نوعية، يؤمّن خلالها تحركات العاملين الميدانيين في منظمة رعاية الأطفال مكتب اليمن، لكنه لم يكن يتوقع إن عليه تأمين نفسه، وعدم تعريض أطفاله لأي صدمة قد تصنع لهم أزمة نفسية طيلة عمرهم.
هذا المشهد التضادي يحدث في البلدان التي تُدار بعقلية المليشيات لا الدولة، ولا شك إن صنعاء هي واحدة من هذه المُدن التي تحكمها مليشيا، إذ حركّت مع غروب شمس سبت 9 سبتمبر 2023، قوّة أمنية من جهاز الأمن والمخابرات، مجهزة بشكل جيد؛ لاعتقال الحكيمي الذي كان يسير رفقة واحدة من أطفاله أمام أحد المولات التجارية بصنعاء.
صدمة في المجتمع المدني عقب وفاة الحكيمي في سجون الحوثي
هذا المشهد الذي يوحي بأهمية العملية، لم ينتهِ هنا، بل يستمر في اقتياده إلى منزله، ودخول شرطة نسائية للمنزل لتسليم الفتاة وأخذ الأجهزة الإلكترونية المتواجدة في المنزل، بما فيها أجهزة زوجته وأطفاله، ليُعلن مساء 25 أكتوبر عن وفاة الحكيمي في ظروف وملابسات غامضة، شكّلت صدمة كبيرة للعاملين في المجتمع المدني في اليمن.
لا تتوقف القصة هنا، بل يمكن القول إنها تبدأ للتو، فاعتقال الحكيمي الذي يشغل أهم منصب في منظمة دولية عريقة؛ له خيوط متشعبة، أبرزها علاقته غير الجيدة مع مديرة مكتب اليمن للمنظمة راما هانسراج والتي انتقلت حديثًا من مكتب المنظمة في جنوب السودان إلى اليمن، وعلى ما يبدو فقد استغل الحوثيون هذه العلاقة المعقدة، ليتمكنوا من اعتقال ما يمكن وصفه ب”كنز المعلومات الخاصة بالمنظمة والعاملين لديها”.
من هو هشام الحكيمي؟
هشام الحكيمي 44 عامًا، هو مدير قسم الأمن والعلاقات الحكومية في منظمة رعاية الأطفال في مكتب اليمن، تم اعتقاله من صنعاء يوم السبت 9 سبتمبر 2023، والإعلان عن وفاته داخل سجون المخابرات مساء الأربعاء 25 أكتوبر 2023، أي بعد 48 يومًا من اعتقاله، واخفاءه قسريًا، ومنع الزيارات عنه، وعدم السماح على تعيين محامٍ له، وكذلك عدم اتهامه رسميًا بأي تهمة.
ينتمي الحكيمي لمحافظة تعز. نشأ في ذمار، وعاش في صنعاء. بدأ العمل في منظمة رعاية الأطفال منذ 2006 كانت حينها تعمل باسم المنظمة السويدية لرعاية الأطفال، قبل أن تصبح لاحقًا منظمة رعاية الأطفال الدولية.
نحو 17 عامًا قضاها في العمل مع المنظمة، تدرج خلالها بالوظيفة الإدارية حتى أصبح مديرًا لقسم الأمن والعلاقات الحكومية. يتمتع بعلاقات واسعة وجيدة مع الكثير من القيادات المحلية داخل اليمن وخارجها، يستخدم هذه العلاقات لتأمين موظفي المنظمة وإنجاح مهمة المنظمة في اليمن في رعاية حقوق الأطفال. ويعد أقدم العاملين في المنظمة، فهو يشغل منصب مهم وحساس في المنظمة، مما يجعله أبرز العاملين المحليين الذي يتولى أعلى منصب.
كان مثالا يحتذى في دعمه المستمر لنجاح مهمة المنظمة في اليمن
منظمة رعاية الأطفال وصفته في بيان بأنه “مثالا يحتذى في دعمه المستمر لنجاح مهمتها في اليمن”. والنجاح الذي تُشير إليه هو قدرة الحكيمي على حماية مقرات المنظمة وسلامة موظفيها، وتجنيب موظفي المنظمة أي أذى، ومتابعة حالات الاحتجاز التي يتعرّض لها موظفي المنظمة من قبل الجهات الأمنية المختلفة، وإخراجهم من المعتقلات، لاسيما معتقلات الأمن القومي.
تندرج تحت طائلة مسؤولية الحكيمي تطبيق معايير السياسات الأمنية الخاصة بالمنظمة والتي تفرض على العاملين سلوكيات يجب اتباعها في عملهم، كما تفرض عليهم قيودًا مختلفة لتجنيب تعريضهم من أية مخاطر، وبناء عليه يقوم بالتنسيق والترتيب مع كافة الجهات الداخلية والخارجية لضمان سلامة الموظفين بمختلف جنسياتهم ومختلف مقرات المنظمة المنتشرة في 11 محافظة يمنية.
ومنظمة رعاية الأطفال، أولى المنظمات الدولية التي دخلت اليمن لتقديم خدماتها الإنسانية. بدأت نشاطها أواخر 1962 وبدايات 1963، وهي الفترة التي انتقلت فيها اليمن للنظام الجمهوري بدلًا عن الحكم الملكي.
من هي راما هانسراج؟
عيّنت المنظمة مديرًا اقليميًا جديدًا لها في اليمن، راما هانسراج، مواطنة بريطانية من أصول هندية. انتقلت هانسراج من جنوب السودان إلى اليمن حيث كانت تشغل ذات الوظيفة هناك.
أتت إلى اليمن لتقوم بالإشراف على التوجيه الاستراتيجي والإدارة التشغيلية وجودة البرامج في المنظمة، وعلى الرغم من فترة عملها المحدود الذي يمتد من فبراير 2022 وحتى سبتمبر 2023، استطاعت احداث تغيير في المنظمة.
تملك كفاءة في إقامة علاقات مع أصحاب المصلحة الحكوميين وغير الحكوميين
في حسابها على اللينكد إن، تعرّف هانسراج نفسها بأن كفاءاتها الأساسية هي بناء الشراكات وإقامة العلاقات القوية مع أصحاب المصلحة الحكوميين وغير الحكوميين، ويبدو إن كفاءتها هذه ساعدتها في بناء صداقات عديدة مع قيادات حوثية، هذه الصداقات لم تكن تراعي خلالها أي اعتبارات للسياسات الأمنية المعمول بها في المنظمة والخاصة بتحركات الأجانب، وهو ما كان محط خلاف مع الحكيمي، الذي يعتبر هذا تساهل بإجراءات السلامة وتجاوز للاختصاصات الوظيفية.
تعيين مشبوه، وشكوك من التضحية بهشام
فترة عملها المحدود، أثار أسئلة لدى الموظفين الذين أكدوا إن أي عقد عمل توقعه المنظمة مع أي موظف أجنبي، يجب أن تكون مدته بين سنتين إلى أربع قابلة للتجديد. وبالنظر إلى فترة عمل هانسراج التي لم تتعدى 21 شهرًا، نجد إنه أقل من سنتين، ولا معلومات لدينا حول انتهاء فترة عملها، هل قدّمت استقالتها من مكتب اليمن، أم انتهت مهمتها؟
وخلال 21 شهرًا، تمكّنت هانسراج من عمل زيارات ميدانية لأماكن متعددة، أبرزها صعدة، ودون اعتبار لسياسات المنظمة الأمنية، ودون وجود مدير قسم الأمن بجوارها، حتى زياراتها التي تتم خارج أوقات العمل، يغيب فيها مدير الأمن سواء بالتنسيق أو بالحضور، وهذا أمر مخالف لقواعد العمل في المنظمة.
في زياراتها لليمن، لم تكن تنسى احضار الهدايا لقادة المليشيا
مخالفات أخرى رصدها موظفين في المنظمة هو ما تقوم به هانسراج من تقديم هدايا من الحلويات لقيادات حوثية في الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشئون الإنسانية ومواجهة الكوارث “سكمشا” التابعة لجماعة الحوثي، وهو أمر يثير الاستغراب، إضافة إلى تعدي حدود العلاقة الشخصية واستخدام وظيفتها في تقديم خدمات طبية فردية لحالات غير مطابقه لمعايير المنظمة لا بالعمر ولا بطبيعة التدخل، إذ ساهمت في علاج إحداهن تتجاوز 40 سنة وتعاني من السرطان، ومع أن هذا لا يدخل ضمن عمل المنظمة، إلا أن هانسراج استخدمت صلاحياتها كمدير وتبنت الحالة القريبة من إحدى القيادات الحوثية.
التحركات الميدانية التي تقوم بها هانسراج، بالإضافة لعمليات تغيير قادتها داخل مكتب المنظمة في اليمن، أدت لوجود خلافات كثيرة بين العاملين في المنظمة الذين فقد الكثير منهم وظائفهم، لاسيما العاملين القدامى، لكن خلافها مع الحكيمي لم يكن حول عملها الإداري، بل لمخالفتها اللائحة الداخلية للموظفين ولسياسات المنظمة الأمنية.
يعزو بعض العاملين في المنظمة إلى أن هذه الخلافات استثمرها قادة المليشيا الذين دفعوا بهانسراج إلى تسريب معلومات من داخل المنظمة متصلة بمهام الحكيمي الوظيفية، وهو ما دفعهم لإبلاغ جهاز الأمن والمخابرات التابع لهم لاعتقال الحكيمي، والغريب إن عملية الاعتقال تمت في الأيام الأخيرة لودجود هانسراج في صنعاء.
إقرأ أيضًا: هل اللجنة الدولية للصليب الأحمر منظمة تبشيرية؟
لماذا تم اعتقال هشام الحكيمي؟
تقتضي مهمة مدير الأمن والتواصل الحكومي في المنظمات، تسهيل تحركات وأعمال موظفي المنظمة عبر إجراء التنسيقات مع الجهات الحكومية المختلفة لاسيما الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية وإدارة الكوارث ” SCMCHA” والتي أنشأها الحوثيون في 25 نوفمبر 2017 لتكون المسئولة عن عمل المنظمات المحلية والدولية.
تطلب الهيئة تقارير دورية وأوراق مختلفة من الجهات لتقوم بتجديد عملهم، ولتمنحهم اذونات تنفيذ الأنشطة والتحركات وكل ما يتعلق بعملهم، تتدخل الهيئة حتى في الاجتماعات الداخلية للمنظمات بل وتقوم بفرض تعيين موظفين محليين ليكونوا بمثابة جهاز أمني داخل المنظمات، ولم تكن منظمة رعاية الأطفال بمنأى عن هذه الإجراءات، إذ قامت بتعيين عدد اثنين موظفين محليين (نحتفظ بأسمائهم).
وبحسب معلومات، فإن هانسراج قامت بتسريب معلومات داخلية لسكمشا عن تقارير العمل التي يرفعها موظفو المنظمة للمسئولين المباشرين، والتي بالعادة تكون تقارير ميدانية عن الصعوبات والتحديات والمستجدات في العمل الميداني، وهي تقارير روتينية. لكن تسريب معلومات داخلية لقادة مليشيا تعرّض حياة العاملين للخطر.
وجدت المليشيا فرصة مواتية لاعتقال أهم موظف يملك معلومات ميدانية متنوعة
اعتقل الحكيمي على غرار هذه المعلومات، وجدت المليشيا فرصة مواتية لاعتقال أهم موظف يملك معلومات ميدانية متنوعة. بالتزامن مع الاعتقال غادرت هانسراج إلى عدن. وبقي الحكيمي وحيدًا ومخفي قسرًا. محاطًا بمليشيا تقوم بالتحقيق معه بطرقها المعروفة والتي تنتهك خلالها كرامة السجين. يبدو إن هذا التعامل السيء، مع خذلان المنظمة، ضاعف من حالته الصحية، ليفارق الحياة مساء الأربعاء 25 أكتوبر.
لم تسمح سلطات صنعاء بأي زيارات له، ولا بتعيين محامٍ خاص به، ولم توجّه له أي اتهام، فقط تحفظوا عليه من باب الارهاب النفسي كما هي عادتهم في التعامل مع المعتقلين، ثم تواصلوا مع أهله عشية موته، لابلاغهم استلام الجثة، ودفنها و”عدم مشاركة أية معلومات متعلقة بالقضية” بحسب ما أفاد مصدر مقرّب من أسرة الحكيمي.
تقرر موعد دفن الحكيني في 29 اكتوبر 2023، ودُفنت معه قصة ألم عاشها بين وحشية مليشيا الحوثي، وبين شبهة التضحية التي تعرض لها من قبل إدارة عمله.
ما موقف منظمة رعاية الأطفال من وفاة موظفها؟
تشير مصادر عاملة في المنظمة، أن مكتبهم في صنعاء لم يتحرك بالشكل المطلوب. عزو ذلك لانتقال صلاحية أعمال المديرة إلى نائب هانسراج: “اشفاق، من باكستان” ومنه حاليًا إلى مدير كندي الجنسية بشكل موقت.
تقول مصادر إن نائبها الباكستاني وموظفين يمنيين دُفع بهم للعمل في المنظمة، كانوا يقفون إلى صف هانسراج ويؤيدون عمليات التغيير التي تقوم بها. واحدة من عمليات التغيير هي إنهاء عقود موظفين بناء على تعليمات صادرة من سلطات صنعاء مقابل تمرير اتفاقيات المشاريع، قالوا إن بعض عمليات التغيير كانت مفيدة لتحسين عمل المنظمة، لكن البعض الآخر كانت للتماهي مع مطالب سلطات صنعاء.
عقب وفاة الحكيمي، اكتفى مكتب المنظمة في اليمن بنشر تغريده في حسابهم على تويتر ليعلنوا عن وفاة الحكيمي. منح العاملين إجازة يومين لمشاركة أهله واجب العزاء، قبل أن ينشر المكتب الرئيسي في لندن بيانًا يعلّن فيه تعليق العمل 10 أيام في مناطق الشمال، واعتزامهم مناقشة ما وصفوه ب: “الوفاة المأساوي” مع السلطات المحلية.
وتساءل مصدر عن غياب تحرك المكتب الاقليمي للمنظمة منذ اعتقاله. على الرغم من علمهم المسبق عن تحركات راما التي يُفترض بها أن تحافظ على أمن وسلامة موظفيها ومنهم هو شخصيًا.
ما هو التحرك المطلوب الآن؟
نحن مطالبين بمواصلة التحقيق في القضية وجمع الاستدلالات، والكشف عن أية ملابسات تؤدي إلى نشر الحقيقة. نحن نعلم مسبقًا إن الحقيقة سيتم تغييبها مثل الكثير من قضايا الاعتقالات، أو قضايا الوفيات التي تحدث في سجون المليشيا.
من المفترض أن نبحث عن إجابات لتساؤلاتنا، وفي حال لديكم أية معلومات، تفضلوا بالتواصل معنا عبر INFO@EOHM.ORG
- لماذا علّقت المنظمة العمل بعد وفاة الحكيمي، ولم تقم بتعليقه منذ اعتقاله؟
- لماذا لم تتحرك المنظمة بشكل جاد للضغط على السلطات بالافراج عن الحكيمي؟ لاسيما مع حساسية منصبه.
- ماذا نفسر اطلاع المكتب الإقليمي لكل تفاصيل القضية ولم يحرك ساكن؟ يفترض بعد اعتقاله أن يتخذ إجراءات وعاجلة في غضون 24 ساعة.
- ما موقف المانحين الدوليين لمنظمة رعاية الأطفال على ما يحدث؟ وعلى اختراقات سياسات المنظمة من أعلى منصب في مكتب مهم مثل مكتب المنظمة باليمن لتعدد المانحين فيه؟
- هل هناك أسماء من الموظفين سيتم التعامل معها لاحقًا بذات الطريقة؟
- هل منصب مدير الأمن والسلامة في المنظمات الدولية سيبقى كما هو؟ أم ستقوم المليشيا بفرض موظفين من أتباعها مثل كثير من المناصب التي تتحكم بها؟
التعليقات مغلقة.