فلم A Perfect Day – في تعز

قراءة لفلم "يوم مثالي" حين تصبح البيروقراطية أخطر من الألغام

Aid workers (Benicio del Toro, Tim Robbins, Olga Kurylenko) in the Balkans try to retrieve a man's body from a well before it contaminates the water for nearby villagers.
0
فيلم A Perfect Day – يوم مثالي: عبث البيروقراطية في العمل الإنساني.. وكيف تتحول النيات الحسنة إلى عائق أمام إنقاذ البشر.

عن فيلم A Perfect Day

“لا تصدقي كل ما تقرئينه في بروتوكولات الألغام؛ لقد كتبوا تلك الأشياء في جنيف، وهم لم يروا لغماً في حياتهم قط”.

بهذه الكلمات الحادة، يفتتح الشخصية المتمردة “بي” نافذة على العبث الإنساني في فيلم المخرج فرناندو ليون دي أرانوا. الفيلم يتجاوز الأطر التقليدية للأعمال الإغاثية، ليغدو تشريحًا نفسيًا واجتماعيًا لبنية العمل الإنساني الأممي، وما يعتريها من تناقضات تُحيل المنطق البديهي إلى متاهة من التساؤلات.

تنطلق أحداث الفيلم من فعل بديهي: فريق إغاثي يحاول انتشال جثة من بئر في جبال البلقان لتطهير المياه. بيد أن تمزق الحبل في المحاولة الأولى يفتح الباب أمام رحلة شاقة تكشف هشاشة النظام الدولي.. حيث تتحول المهمة من إنقاذ بئر إلى صراع مع “النظام”. وتتسع الدائرة الرمزية لتفضح الخصوم المتوارين خلف الستار، بعيداً عن فوهات البنادق.

إقرأ أيضًا… حين تصبح الحرب هي الملاذ


البيروقراطية: القاتل الصامت وتنظيم الفشل

في هذا الواقع القاسي، تبرز البيروقراطية كشخصية صامتة تهيمن على المشهد بأكمله. إنها الخصم الحقيقي الذي يزرع الإحباط عبر قواعد جامدة تتعامل مع الأرقام وتتجاهل وجوه البشر. 

الفيلم يُعرّي زيف نموذج “المنقذ الابيض” القادم من المكاتب المكيفة بحقائب مليئة بالنظريات، ويطرح في المقابل قيمة “الفهم الميداني” الذي يمتلكه العاملون تحت وطأة الخطر.

يتحول “الحبل” -تلك الأداة البدائية- إلى رمز للمستحيل نتيجة العجز الإداري وتضارب الصلاحيات. وفي لقطة تفيض بالمرارة، يرفض مسؤول محلي تسليم الفريق حبلاً لأنه يُستخدم لربط “علم البلاد”، معتبراً أن إنزال العلم لأجل تنظيف بئر  يُسقى منها مئات البشر يمثل هزيمة سياسية. هذا المشهد يجسد جوهر المأساة؛ تغليب الرموز والسيادة المتوهمة على حياة البشر العطشى.


نيات حسنة وأثر عكسي: لعنة التدخل المتعالي

يطرح الفيلم إشكالية عميقة تتعلق بالنتائج الكارثية للتدخلات التي ترتدي ثوب “النية الحسنة” وتفتقر إلى فهم السياق. المنظمات الدولية تصطدم غالباً بجهلها بطبيعة المكان، وهذا الجهل حين يمتزج بالبيروقراطية يُنتج أثراً سلبياً يتجاوز مآسي الحرب نفسها.

يتحول العمل الإغاثي هنا من “نجدة” إلى “وصاية” تمنع الحلول الفورية لمجرد عدم اكتمال “النموذج الإداري” أو وقوع الفعل “خارج نطاق التفويض”. المنظمات التي تعمل بآليات جامدة تكتفي بتخدير الأزمات لا حلها، وتحول الضرورات المعيشية إلى رهائن في سوق المفاوضات الورقية، تاركة الناس لمصيرهم البائس.


 السخرية: السلاح أخير ضد الجنون

في مواجهة هذا الانغلاق، يتخذ الأبطال من السخرية آلية للبقاء ودرعاً نفسياً. يخبرنا المترجم دامير عن روح المنطقة

“هذه المنطقة مشهورة بالزبادي وحس الفكاهة.. الأطفال هنا يولدون وهم يضحكون لا يبكون”

هذه السخرية تفضح خواء الأجهزة الضخمة التي تُتقن “تنظيم الفشل”، وهي ذات الروح التي تسكن مدينة تعز؛ فالحصار المطبق والدمار لم يمنعا الناس من ابتكار النكتة وصناعة الحياة من قلب الركام. السخرية في تعز، كما في الفيلم، تمثل الطريقة الوحيدة لعدم الجنون أمام قرارات دولية قد تمنع إزالة لغم أو فتح طريق لمجرد عائق إجرائي. حتى الجثة العالقة في البئر تماهت مع الحوارات لتصبح مادة للتندر، تماماً كما تتحول ملفاتنا الخدمية المعطلة إلى نكات مريرة تساعدنا على تحمل ثقل الانتظار.


قوة الفطرة: المطر هو الرد الصارخ على كل التقارير التي قالت لا يمكن

يفتح الفيلم نافذة على قوة الفطرة عبر مشهد المرأة القروية التي تعبر حقل ألغام مقتفية أثر أبقارها. وحين يحاول الفريق منعها، ترد بيقين فطري:

“عليّ العودة للمنزل، لا يوجد طريق آخر.. هل تعتقدون أنني أستطيع الطيران؟”

هذا المشهد يعيد طرح السؤال: هل تكمن الحكمة في التدخلات الكبرى، أم في ترك الحياة تستخدم أدواتها البدائية للنجاة؟

الدرس الأهم لمدننا المنهكة هو أن الحلول الأكثر رسوخاً تنبع من رحم المجتمع المحلي الذي يبتكر مسارات صموده حين تعجز حبال المنظمات. المبادرات المجتمعية التي شقت الطرق في تعز كانت هي “المطر الحقيقي” الذي رفع الجثة من البئر؛ فالتعافي الذاتي يمتلك طاقة تضاهي التدخلات الضخمة وتتفوق عليها.

تؤكد خاتمة الفيلم هذه الفلسفة:

فبينما تقرر القوات الأممية منع الفريق من سحب الجثة لأسباب إجرائية، تتدخل الطبيعة ويهطل مطر غزير. يفيض بالبئر ويخرج الجثة تلقائياً. المطر هو الرد الصارخ على كل التقارير التي قالت “لا يمكن”. وهو رمز لقدرة الحياة على التعافي حين يرفع  الجميع أيديهم عنها.


نحو مسؤولية بلا وصاية

يتجاوز “A Perfect Day” كونه فيلماً، ليصبح بياناً إنسانيا يدعو لتمكين الناس بدل فرض القوالب الجاهزة. تعز اليوم لا تعاني من الحرب وحدها، بل من تسييس الاحتياجات وتحويلها إلى “جثث سياسية” عالقة في آبار الإجراءات.

ما أحوجنا إلى “يوم مثالي” في تعز؛ يوم يخفت فيه ضجيج الوصاية، وتُمنح المجتمعات المحلية فضاءً للتنفس. الفعل الإنساني الحقيقي يتجسد في صدق الإرادة وعمق الصبر. وحين تتعثر خرائط جنيف وتتقطع حبال البيروقراطية، يظل إصرار الناس هو المخرج الوحيد لتستعيد الحياة حقها في التجدد ببطء وببساطة.. ولكن بثبات.

A Perfect Day (2015) يوم مثالي
فيلم الكوميديا والدراما الاجنبي A Perfect Day 2015
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد