في ردهات الذاكرة، حيث تتراقص أطياف الطفولة على أنغام الحنين تبرز صورة فتاة هادئة وروح مثابرة عشقت العلم والاطلاع منذ نعومة أظفارها.
تلك هي دعاء الأهدل التي وجدت في الكتب والمجلات ملاذًا، وفي تدوين اليوميات وكتابة التعبيرات القصيرة متنفسًا لخيالها الطفولي الجامح. لم تكن مجرد قارئة، بل كانت ناسجة للكلمات. خطّت أولى حروفها على صفحات الزمن؛ لتعلن عن ميلاد كاتبة بالفطرة تسكنها الكلمة قبل أن تسكنها.
جذور المكان وعبق الذاكرة
من رحم محافظة لحج وتحديدًا قرية “عبرلسلوم” بمديرية “تبن” انبثقت حكاية دعاء.
هناك بين أحضان الطبيعة الساحرة ترعرعت وتفتحت مداركها.
لم تكن القرية مجرد بقعة جغرافية، بل بوتقة صهرت فيها روحها، وشكلت وجدانها ككاتبة. كل مشهد وكل تفصيلة كانت تتحول في مخيلتها إلى قصة، وإلى عبارة تنبض بعبق الريف وسكونه. ما زال المكان حيًا في أعماقها بجماله الأخاذ، يدفعها نحو الكتابة، ويُلهمها صناعة المزيد من الحكايات التي لم تُروَ بعد.
دعاء الأهدل وإرث العائلة
تحمل دعاء في شخصيتها اليوم ملامح عميقة من عائلتها وبيئتها. فمن عائلتها ورثت حب الشعر والكتابة.
والدها وجدتها كانا من هواة الشعر، وقد حدثها والدها عن خالته التي كانت شاعرة ارتجالية، كما أن أخواتها كنّ عاشقات للقراءة والكتابة، لكن دعاء هي من سارت في هذا الدرب ووسّعت آفاقه لتجعل منه مسارًا لحياتها.
أما البيئة فقد كانت ذات أثر مزدوج ففيها ما كان عونًا لها، وفيها ما كان عقبة. لكنها اختارت أن تأخذ الجانب الإيجابي منها لتصقل موهبتها، وتُعلي من شأن قلمها. واليوم تدين دعاء لتلك البيئة والعائلة بالكثير مما شكّل كيانها الأدبي.
حين سكنت الكتابة الروح
لم تكن الكتابة اكتشافًا طارئًا في حياة دعاء الأهدل بل تسكنها منذ الطفولة بالفطرة النقية.
في عمر السابعة كانت تحدث الأشجار والطيور والأرض وتغني لها أغانٍ من نسج خيالها الخصب، شعور عميق بأنها ليست عادية كان يراودها، وأن هناك شيئًا مميزًا يكمن في أعماقها.
بدأت تعبّر كتابةً منذ الحادية عشرة من عمرها على شكل يوميات ورسائل للصديقات، ثم تحولت تلك التعبيرات إلى تدوين لكل شيء في مذكراتها الخاصة. لتصبح الكتابة رفيقة دربها وشاهدة على نمو وعيها وتطور رؤاها.
الأسرار الأولى والخطوات الواثقة
لا تتذكر دعاء النص الأول الذي خطته أناملها فقد كتبت الكثير من النصوص في صغرها واحتفظت بها لنفسها كأسرار عزيزة لا يشاركها فيها أحد، لكن أول من قرأ لها كان أخواتها ثم أحد الأساتذة في المعهد الذي درست فيه والذي كان أيضًا من معارف العائلة.
قرأ نصوصها وشجعها، ثم تبعه مدير المعهد الذي كان له الدور نفسه من التشجيع والدعم لتتلقى دعاء الأهدل أولى جرعات الثقة التي دفعتها للمضي قدمًا في طريق الكتابة.
“ذاكرة قلب”: ميلاد كتاب دعاء الأهدل
فكرة كتابها الأول “ذاكرة قلب” لم تولد صدفة
جاءت فكرة كتابها كتعبير صادق عن مشاعرها ومشاعر الآخرين التي استمعت إليها من تجاربهم.
كان الكتاب يحملها ويحملهم في آن واحد، يجسد نبض الحياة بكل ما فيها من حب، وفقد، واشتياق، وحزن. من هنا تبلورت لديها فكرة أن القلب يحمل ذاكرة خاصة به. هكذا جاء العنوان الذي يعكس عمق ما أرادت أن تبوح به.
ورغم تذكرها لاحقًا لكتاب أحلام مستغانمي “ذاكرة الجسد” إلا أنها تؤكد أنها لم تستلهم منه مطلقًا فـ “ذاكرة قلب” نبعت من أعماقها لتؤكد أن الذاكرة والقلب يكملان بعضهما. فالذكريات تسكن القلب والقلب بدوره يبقى أسير تلك الذكريات.
الكتابة مرآة دعاء الأهدل
أثناء كتابتها، كانت دعاء الأهدل تكتب لنفسها أولًا لتجد في النهاية أن القارئ هو مرآة لذاتها، يعكس ما في أعماقها من صدق وعمق.
اللحظة التي شعرت فيها أنها لم تعد تكتب خواطر متناثرة، بل شيئًا يستحق أن يصبح كتابًا كانت حين وجدت أن ما تكتبه مختلف، صادق، عميق، وذو نفس طويل. حين شعرت أنه يتجاوز اللحظة إلى ما هو أبعد ويستطيع أن يمثل مشاعر الأجيال والأمكنة. هناك أدركت أن ما تكتبه يستحق أن يكون كتابًا، وأن رسالتها أعمق من مجرد كلمات عابرة.
اقرأ أيضًا عن فؤاد مسعد.. شاعر الغروب وصحفي الحقيقة المضيئة
الصدق في وجه الخوف
لم تخف دعاء الأهدل من رد فعل الناس، بل كانت مطمئنة لأنها تكتب بصدق، وتؤمن أن ما يخرج من القلب يصل إلى القلب مهما كانت ردود الفعل. فصدق المشاعر هو درعها الحصين، وهو الذي يضمن وصول كلماتها إلى القلوب والعقول.
لم يكن الكتاب فضحًا لأسرارها الداخلية بقدر ما كان مصالحة مع ذاتها، فهي تؤمن أن التعبير الذاتي ليس “فضيحة شعورية” بل متنفس للروح، وذاكرة خالدة مهما كان طابعها تخلد اللحظات والمشاعر لتصبح جزءًا من تاريخ الروح.
تحولات الروح بعد ميلاد الكتاب
بعد صدور الكتاب شعرت دعاء الأهدل أن تلك المشاعر التي كتبت بها لم تعد كما كانت، فقد تبدلت بتبدل التجارب والمواقف. فالكتاب بالنسبة لها أشبه بتأريخ لتلك المرحلة من حياتها، وربما لو حاولت إعادة كتابته بالروح نفسها فلن تستطيع. فكل مرحلة لها روحها وكلماتها.
كثيرًا ما شعرت أن دعاء التي تكتب ليست هي نفسها دعاء التي تعش يومها العادي، فمجتمعنا لا يقدّر دائمًا شعور الكاتب ولا يعرف قيمته. والكاتب في رأيها إنسان مختلف تمامًا في إحساسه وطريقة تفكيره وأسلوب حياته.
وقد وصفت ذلك في إحدى قصائدها قائلة: “الشعراء مجانين”، واصفة جنون الكاتب والشاعر الذي يرى العالم بعين مختلفة.
اقرأ أيضًا عن عمر العمودي اللاجئ الذي لم يفر من الحرب
فخر البدايات وأحلام المستقبل
تفتخر دعاء الأهدل جدًا بكتابها الأول، فقد صبرت وصارعت الظروف من أجل صدوره ليكون شاهدًا على إصرارها وعزيمتها.
تحلم دعاء بما هو أبعد من ذلك، فلديها مجموعة قصصية جاهزة لم تُنشر بعد، وديوان شعري قيد التجهيز، والكثير من الأفكار التي تسعى لتحقيقها. فالكتابة بالنسبة لها وسيلة لأحلام أكبر.
وإن كانت ظروف الوطن قد جعلتها تعيش في دائرة محاصرة “حتى الأديب لا يستطيع الوصول إلى كامل إمكانياته” لكنها تؤمن بأنها لو عاد بها الزمن إلى الوراء لكانت ستكتب الكتاب بالطريقة نفسها، فهي لم تندم يومًا، بل تفتخر بأسلوبها، وببصمتها الخاصة في كل ما تكتب في أي جنس أدبي. فكل ما تكتبه يحمل طابعًا خاصًا يميزها.
هي دعاء الأهدل لتظل كلماتها بصمة خالدة في عالم الأدب.
هذه االكاتبة غزيرة الثقافة وعالية الهمة وصافية الرؤية
شكرا لها ولامثالها