الأغنية اليمنية في تشريح للكاتبة الكويتية اقبال عبيد
كلمات: يحيى بن حسين – الأغنية اليمنية من أداء الفنان محمد أبو نصار
مع السـلامة قد نويت السفر
قلبي بيلهـب والنبي مستقر
ما بش أمـل نرتاح بين البشر
أنا مسافر فوق سطح القمر
..
اقتباس من كناب هكذا تكلّم زرادشت – فريدريدك نيتشه
(ماذا جرى يا أصحاب؟
لقد سادني الاضطراب
فأضعتُ هُداي
وأراني مندفعًا بالرغم منّي
إلى الرحيل والابتعاد عنكم
وا أسفاه).
في تشريح الأغنية اليمنية
جاءت كلماتُ الأغنية اليمنية التي غناها محمد أبو نصار يائسةً تمامًا من البشر ومن كوكب الأرض بحجمه، لخّصَ كلماتِه بتجربةٍ عاطفيةٍ، حالةً تطغى فيها الأنانية والقسوة، ثم يتجلّى الشعورُ بالغربة والانفصال في مكانٍ لم يَعُد مألوفًا، يؤمنُ بأنّ السفرَ إلى سطح القمر قد يكفيه شرورَ أهلِ الأرضِ ويملؤه اكتفاء بالذات، إضافةً إلى بناء معنى لحياة جديدة وسط محيطٍ منعزلٍ داخليّ. يبدو أنّ شاعر الأغنية اليمنية يقصد “العزلة” فلا مؤشّراتِ تلوحُ بالآفاق حول حياة على سطح القمر.
إحدى أعظمِ الضروراتِ في أمريكا هي اكتشافُ عزلةٍ خلّاقة.. كارل ساندبيرغ – شاعر أمريكي
العزلة الخلّاقة إذن؟
العزلة هي الانسحاب الاجتماعي، والشعور بعدم الراحة أو الألم الذي يخبرنا أنّ حاجتنا إلى التعلّق بالآخرين ليست مرضية.
يبدو أنّ الحاجة إلى أن تكون بمفردك من حينٍ إلى آخرَ سمةٌ إنسانيةٌ عامّة – إنّها العُزلةُ التي تُظهر للشخص “احتياجاتِه الحقيقية، حيث تستوعبُ العزلةُ الاعترافَ الحقيقيَّ والحياة الحقيقية، في حين أنّ المجتمع هو ساحةُ المعركة والاحتمالات.
لقد أكّد الفلاسفة في كثير من الأحيان أنّ العزلة شيءٌ إيجابيٌّ؛ إذ إنّها تُعَدُّ مكانًا متميّزًا للتفكير حيث يمكن للمرء أن يقترب اقترابًا خاصًّا من الحقيقة. ويُشدّدُ ديكارت على أنه كيف سعى الفرد إلى العُزلة في الأرياف، بعيدًا عن المدينة التي تسعى -أيضًا- إلى التفكّر وتأمّل ذاته في فَهم الحياة ومواجهتها، يقول أرسطو إنّ أفضلَ ما في الحياة هو الحياة التأمّلية، وهذه هي الحياة التي يمكن أن تعيش في مَعزِلٍ عن الآخرين.
- عندما تغدو الحياةُ بلا معنى رهينةَ قُوى عاتية تُجبرُك على الانغماس في معركةٍ دون مواجهة. ستختارُ حتمًا الهروب.. اقبال عبيد
الانسحاب وحده لا يكفِ
رالف والدو إيمرسون، يقول “لا يمكن للشخص أن يعرفَ نفسَه إلّا إذا كان وحيدًا ، وحتّى في هذه الحالة لا يكفي مجرّد الانسحاب من مجتمع الآخرين بحيث يجب على المرء -أيضًا- أن يتخلّى عن القراءة والكتابة ويكون وحدَه مع النجوم. كشيءٍ لا مفرَّ منه على حدٍّ سواء وشيء يجب متابعتُه بنشاط. ويشير إلى أنّ المرءَ يحتاج بالتأكيد إلى أشخاص آخرين، لكنّ اجتماعاتِنا معهم تتلاشى دائمًا. وأثرهم قصير ومتلاشٍ.
لدى فريدريك نيتشه وجهة نظر مماثلة. غالبًا ما يتمّ وصف العزلة بأنّها “الملاذ” في كتاباته. ويظهر استعاراتِه للحياة الريفية -أيضًا- إظهارًا متكررًا، كما أنّ حياة الطبيعة هي التي تُمكِّن نوعَ التحصيل الذاتي الذي يخسرُه المرء عندما يعيش كجزء من المجتمع.
عندما أكون من بين الكثيرين الذين أعيشهم كما يفعل الكثيرون، لا أفكّر كما أعتقدُ حقًّا؛ بعد وقت، يبدو الأمر دائمًا وكأنّهم يريدون إبعادي عن نفسي وسردي لذاتي.
لا يمكن للمرء اكتشافُ “الذات العليا” إلا نتيجة تركِ المجتمع ومتابعة العزلة. وَفقًا لنيتشه، يمكن للتفاعل مع الآخرين أن يكون جيّدًا من حين إلى حين، ولكن بوجهٍ أساسي بحيث يمكن للمرء أن يعود، في راحة، إلى أحضان العُزلة.
هل تخفِّفُ العزلة من وطأة سوء الواقع؟
السقوط في بركة الواقع القاسي أول مرة يشبه حالاتِ السُّكْر ومع تكرار الانهيار المعاش شيئاً فشيئاً ينفصل الإنسان عن مواجهة الحياة بوعي كافٍ ليكبرَ شعور اللامبالاة ويتراجع قياسُ العناصر الفعّالة في محيطه.
يصفها كيكرغارد في أنّ الذات هي عَلاقة تتفرّدُ بنفسها، ولكنّها تتعلّق -أيضًا- بذواتٍ أخرى التي بدورها تتعلّق بذواتها. نحن قادرون على النظر فيما يفكّر فيه الآخرون وبما يشعرون تجاهنا، ونجد أنّ تقييمات الآخرين لنا تمثّل أهمّيةً. ومن ثَمّ، يدمّر عدم انتباه الآخرين واهتمامهم لنا عَلاقتنا الذاتية. إذ إن الإنسان، بطبيعته في الأساس، كائنٌ اجتماعيٌّ، وهي حقيقة لا جدالَ فيها. ويكون لشريك الحياة والأصدقاء تأثيرٌ أكبرُ بكثير من الثروة أو الشهرة في دراسات الرفاهية الشخصية. ومن ثَمَّ، فإنّ العزلة الاجتماعية لها تأثيرٌ سلبيٌّ للغاية على الصحّة النفسية والجسدية. لطالما عُدَّ العزل والإبعاد من المجتمع أحد أقسى العقوبات التي يمكن أن يتعرّض لها أيُّ شخص، وفي العصور القديمة كان يُعدُّ قاسيًا مثل عقوبة الإعدام. ويَنظر الكثيرون إلى العزلة كنوع من أنواع العقاب البشع في السجون.
التطور بمعزل عن الآخرين
بالعودة إلى الأغنية اليمنية فإن الشاعر، لا يريد أن يوقف عجلة تطوّره ولا حياته بل يريد أن يمارسَها بمَعزٍل عن الآخرين.
(المقطع الثاني)
القلب قد سافر وأصدر بيــــان | لا يمكن العودة لفوضى زمان |
ذي عاد عندي من هواهم صدر | أنا مسافر فوق سطح القمـر |
لا تأسفي يا نفس يكفي أسف | ولا هو أول مَن وَعد واختلــف |
يفعــــل بنفسه بعدنا ما قَــدَر | أنا مسافر فوق سطح القمـــر |
إن مدرسة الحياة البشرية الكبرى هي التجربة. إنّها النحت الأكثر تأثيرًا في تشكيل وعي الإنسان وإدراكه للخيارات التي يخوضها داخل معترك الحياة. يقولون “الصراع من أجل البقاء”، من ثَمّ تأتي الصدمة من خيبة التصوّر وتداعي الصورة التي كوَّنها الفرد لآماله لتصدم عاجلًا مع الوضع المحتوم القاسي للحقيقة التي لا تفرض حلولًا عديدة سوى العُزلة أو الخلاص.
التعويض الذي يبحث عنه في عزلته المقاومة لتوزان نفسي تمنحه إحساسًا بالأمان والاطمئنان وتعيد له القيمة الفردية بأشكالها المختلفة. لا شكَّ هنالك أناسٌ يفضّلون الهربَ والاختباءَ وراء مفهوم العزلة على الكفاح والعمل ضدَّ المعضلات الخارجية القاسية التي يوجّهونها ولأنَّهم يخشَون لغرورهم وكبريائهم الفشلَ في حلّ معضلاتها أو التشافي المؤقّت ضدَّ جموع الحلول المطروحة التي تستوجبُ الصراع لكي تأخذ الحياة معناها في الشعور بالأمان والحرية.
رغم الحالة التي يختارها الإنسان في عزل العوامل الخارجية عن العبث في حياته أو التعامل معها بسطحية لكنّها لا يستطيع صدّ القوة الخارجية المتغيّرة في التسرُّب داخل عُزلته.
هل يصمد الإنسان أمام عزلته؟
إنّ العزلة تمنحنا أشياءَ كثيرةً عن أنفسنا وعن مكاننا في العالم. ونشعر بالارتداد إلى مساحة الراحة التي لا نحدث فيها فرقًا، حيث يكون وجودُنا أو عدمه خاليًا من ملائمة محيطنا. وبهذا نرى أنّ العزلة ترتبط ارتباطًا خاصًّا بمحاكمة النفس. في الوقت نفسه، يحتاج المنعزل إلى علاقة مع نفسه غير محدّدة بنظرة الآخرين له، حيث لا علاقة خارجية تقاس تظهر في العزلة علاقة مباشرة أكثر بالمنعزل لأنه لا يتوسّط في نظر الآخرين لنفسه. وفي العزلة يهرب من تجربة كونه كائنًا لشخص آخر. وهذا ما يشكّل حرية من الآخرين وأحكامهم. عندما يكون المنعزل بمفرده، تُتاحُ له الفرصةُ للفرار فيما يتعلّق بنفسه بطريقة انعكاسية. ويبدو أنّ المنعزلين أقلُّ وعيًا بأنفسهم عندما يكونون وحدَهم.
“يصف جان بول سارتر البشر المنعزلين، بأنّ عليهم أن يشعروا بالألم الذي تجلبه العزلةُ للاعتراف بمكانهم في الكون”. ومع ذلك، فإنّ الحياة البشرية تتحقّق دائمًا مع الآخرين أيضًا. والتفسير هنا ليس أنّ الشخص موجود أولًا لنفسه ثم ينضمّ إلى الآخرين. حيث إن الوجود الإنسانيَّ هو بالضرورة كائنٌ يُعاش معه. في الواقع، فإنّ الوجود هو في الواقع شرط أساسيٌّ للتعرّف على أنفسنا. حيث نتعرّف على أنفسنا بوساطة عيون الآخرين.
يجب أن نضيف أنّ كانط يكتب” عن عدم النضج الفكريّ للمنعزلين، في حين أنّ عدم القدرة على تكوين العزلة تنبني على عدم النضج العاطفي. وتكمُن الصعوبة في العزلة في أنّ المرء مجبرٌ على الارتباط مع نفسه، والنجاح في إيجاد السلام داخل هذه العلاقة الذاتية. وإذا افتقرنا إلى هذا السلام، فإنّنا نسعى إلى الاتجاهات التي يمكن أن تبعدنا عن أنفسنا”.
كما يكتب باسكال: ” نحن لا نسعى إلى هذا القدر السهل والسلميّ الذي يسمح لنا بالتفكير في وضعنا التعيس، ولا مخاطر الحرب، ولا عمل المكتب، ولكن الصخبَ الذي يوسّط أفكارَنا هذه، ويسلّينا. إنّ الأسباب التي تجعلنا نحبُّ المطاردة أفضلَ من المحجر.
(المقطع الثالث)
قولوا لصنعاء سهل ما بِش قلق | هو طبعها لا شي ضعيف امتحق |
مسكين قلبي كم عليها صبر | أنا مسافر فوق سطح القمر |
قولوا لصنعاء سهل ما بِش عتب | لِلمه تغيّر طبعها واقتلب |
لكن بسيطة كم ضعيف انتصر | أنا مسافر فوق سطح القمر |
يقول الشاعر إدغار لي ماسترز
“أنا هنا في مسقط رأسي
ومربّع طفولتي في “سبون ريفر”
أتحطّم كلَّ يوم وأضيع”
هل يمكن للعزلة أن تتحوّل إلى اضطراب؟
لقد أشار شاعر الأغنية اليمنية لمسقط رأسه “صنعاء” شاكيًا من هجر حبيبته، لكن للمدينة آلامها وصراعتها الخاصّة. تغلغل خيال الشاعر إلى النظر للمدينة من خارجها لم يستطع القبول بواقع الحياة القاسي، المدن للمنعزل تحمل لحظاتِ حياته الماضية والحاضرة وتصوّرات المستقبل وهو واقع مُنتَمٍ مرتبطٌ بالذات. صنعاء للمنعزل هي دائرة الخارج حسب الحدود التي تكون بالسفر إلى سطح القمر (الداخل) ومن هنا تأتي فكرة وجود داخل وخارج.
شيئاً فشيئاً وهروبًا من العالم الخارجيّ يبني نوعًا من الفوضى في تصادم عالم غني بالتجارب محموم بإفراده إلى عالم جديد، وهذا كلّه يدورُ في ذهن المنعزل وحاجته للتحكّم الداخليّ على محيطه الذي سيميل بصورة طبيعية إلى منحه طابعه الشخصي. لن يهتمَّ كثيرًا بمسألة أن يكون واعيًا لأنّ شعوره بالوجود يرتكزُ على ما يستشعرُ باطنيًّا. هذا يعزّزُ الشعور بالذات بوصفها كليًّا للـ”أنا”، ومن هنا تأتي مسؤوليته بالاستقلال إلى كلّ ما هو خارج.
في الداخل الذي يشكّله المنعزل المضطرب ثمّة تحدّياتٌ ومن المفيد تأمّل متطلّبات الواقع الخارجي في التفاعل مع الوسط الاجتماعيّ فالعالم الداخل يستخدمه ليعطيَه شكلَه الخاصَّ ويخلق غايته بنفسه ليتخبّر نتائجَها المحسوبة بدقّة.
كتب ألفريد أدلر “لقد ألقى شكسبير في مسرحياته جميعها مثل شعراء اليونان القدامى المسؤولية على رأس المجرم في عصر كانت فيه الحوادث الدامية تثير السخط والغضب في الشعور الاجتماعي لدى أولئك الذين يكافحون من أجل مجتمع مثالي”.
اللاوعي واخفاء الفشل
يشيرُ تشكيل المجرم بوضوح إلى نمط حياة الإنسان دون نشاط، تأثيرًا فائدة تذكر لمحيطه (الخارج)
في حالة العالم الداخليّ اللاوعي تعكس القدرة على إخفاء الفشل من الحياة ورفض الشراكة الاجتماعية إذ يشعرون بابتعادهم بهالة من الراحة والانعتاق من مواجهة واجباتهم تجاه الحياة في جميع حالات الفشل كمن يحتفظ بعذر وحجّة لا تدحض.
العالم المتشكّل الداخليّ ذاتيًّا وأعني العالم المهيّأ للهروب والعزلة المضطربة قادر أن يؤذيَك أن فكّرت أن تقيمَ مطولًا فوق سطح القمر.
في كتاب الطبيعة البشرية لعالم النفس دونالد وودز وينكات يقول ثمة منطقةٌ خاليةٌ تسمّى: “no man’s land”
ما هو خلق ذاتيًّا وما هو متصوّر يمكنُهما أن يتمايزا كليًّا لينشأ مرض خطير يأتي على شكل فصام، بينما الذات الحقيقة تختبئ بعيدًا لتحميَ نفسَها وتسيطر المتصوّرة. هذه الذات الوهمية والمزيّفة تتطوّر على أساس الامتثال للمتطلّبات حياة داخلية ليست لها قدرة على إقامة تفاعلات ولا قرارات خارج محيطها الموهم بالحماية والراحة. هؤلاء قد تخطّوا مفهوم العزلة الجوهرية للإنسان إلى تنافر مباشر بين الواقع الخارجيّ وبينهم وبل بكلّ بساطة يجدون فسحة مريحه إذ شكّلت تجاربهم المخيبة هوة سحيقة تبعدهم عن العالم الخارجي فهم يعيشون منكبّين على أنفسِهم ليتطوّر لديهم مرضٌ نظير الفصام.
(المقطع الرابع)
مع السلامة لا بلاكم بِشَر | أنا مسافر فوق سطح القمر |
أمّا الحقيقة ودكم لا يزال | إلا انني أخشى عليه الزوال |
تداركوني مهجتي في خطر | أنا مسافر فوق سطح القمر |
لا أطيق وجود أحد بقربي
دعونا الآن نحاول أن نلقيَ نظرةً فاحصةً على وظيفة الانفعال والتناقض في هذا السياق من القصيدة حيث يدعو الآخرين إلى النظر في معاناته وسفره لاحقًا إلى القمر وعزلته.
تشير الدراسات المختلفة ألّا يمكن للإنسان -حقيقةً- أن يعيشَ بمَعزلٍ عن “الآخر”
وكما كتب نيتشه في هكذا تكلّم زرادشت “يقول المنفرد في نفسه (لا أطيق وجود أحد بقربي) ولكثرة ما يقف محدّقًا في ذاته تظهر التثنية فيه، ويقوم الجدال بين شخصيته وبين ذاته؛ فيشعر بالحاجة إلى صديق. وما الصديق للمنفرد إلا شخصٌ ثالثٌ يحولُ دون سقوط المتجادلَين إلى الأغوار كما تمنع المنطقة المفرغة من غرق العائمين”.
تفتح المشاعر الفضاء التجريبي. حيث يركز هايدجر في الغالب على الحالة المزاجية “المظلمة”، لكنّه يناقش -أيضًا- الحالة المزاجية الأخرى، مثل السعادة القصوى الناتجة عن وجود شخص نحبّه. حيث إنّ مزاج الحبّ يفتح لنا العالم ككائنٍ يمكن أن يحدث الحبّ. لن تكشف هذه السعادة عن شخصٍ نحبّه فحسب، بل عن العالم عامّة؛ لأنّ كلّ شيء آخر سيحدثُ في ضوء هذا الفرح. لقد شهدنا جميعًا كيف يبدو العالمُ مختلفًا عندما نقع في الحبّ أول مرة وأيضًا عندما يفنى هذا الحبّ.
ويحتجّ هيدجر على القول بأنّ الحبَّ يجعلنا عميانًا، ويؤكّد بدلًا من ذلك أنّ هذا الحبّ يدفعنا إلى رؤية الأشياء التي لا يمكننا رؤيتها عندما لا نكون في حالة حبّ.
وعندما تكون في مزاج سيّئ، تكون أجزاء من العالم مغلقة أمامنا، وغير قادرين، على سبيل المثال، على البهجة بسبب فرحة الآخرين.
العزلة والكآبة المتعالية
من المناسب أن يتمَّ وصف بطل الرواية في رواية صمويل بيكيت المبكّرة “حلم العادلة لنساء عاديات” على أنهنّ يعانين من “كآبة متعالية”؛ لأنّ هذه الكآبة هي شرط لإمكانية تجربة العالم.
مع ذلك، فإنّه يتمُّ التأكيد على العزلة إذ إنَّها مساحة مميّزة للتفكير في كثير من النصوص الفلسفية.
وتمثّل كتابات هيدجر أعراض هذا الموقف عندما يكتب أنَّ العزلة هي الطريق إلى معرفة الذات.
هل من الصحيح أنّ الشخص يقتربُ في العزلة من الحقيقة عن كثب أكثر من غير ذلك؟ لا أعتقد هذا. قد تكون العزلة قادرةً على توفير بعض الأفكار التي لم تكن لتتمكّن من الحصول عليها، ولكنّها من جهة أخرى تحجب -أيضًا- رؤى أخرى. حيث تعطيك العزلة منظورًا آخر للوجود – وليس بالضرورة أن يكون المنظور صادقًا.
لا ترافق الحالة المزاجية مجرّد وجودنا مع الآخرين، ولكن على النقيض من ذلك، تقطع شوطًا طويلا نحو تحديد كيفية تضافرنا مع الآخرين. حيث يبدو أنّ هذا عامل رئيس في ظاهرة الوَحدة. سيكون الشخص في مزاج منفرد مع الآخرين بطريقة مختلفة عن شخص ليس في هذا المزاج.
يمكننا أن نقول إنّ الوحيدين وغير الوحيدين يشغلون عوالم مختلفة، إذا جاز التعبير؛ لأنّ الاختلاف في المزاج سيؤدّي إلى تجارب مختلفة للغاية للعالم بعضهم تجاه بعض وتجاه المواقف التي يجدون أنفسهم فيها.
عالم الإنسان السعيد
كتب الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين في سجلّ الفلسفة عام 1921 أن: عالم الإنسان السعيد مختلف عن عالم الإنسان التعيس
يمكن قول الشيء ذاته عن عالم الشخص المنفرد. حيث إنّ الوَحدة تظهر لك جزءًا أحاديًّا من الواقع. هذا يظهر لك عالم وحيد. ومع ذلك، هناك أجزاء أخرى – أو عوالم أخرى، إذا صحّ التعبير.
ومن ثَمَّ، لا يمكن اعتبار العواطف كمجرّد حوادث ذاتية بحتة، ولكن كأدوات معرفية، أي كأدوات تخبرنا بشيء عن الواقع. مثل كلّ الأدوات الأخرى التي نستخدمها لإدراك الواقع، يمكن أن توفّر لنا العواطف -أيضًا- رؤية صحيحة أو خاطئة. حيث إنّ ما نشعر به في موقفٍ ما يعتمد على كيفية تفسيرنا لهذا الموقف.
وهنالك علاقة واضحة، على سبيل المثال، بين مستويات الثقة المنخفضة والشعور بالعزلة. حيث يفسّر الأفراد الوحيدون محيطَهم الاجتماعي على أنّهم يهدّدون بدرجة أكبر من الأفراد غير الوحيدين. كما أنّهم يُعدّون المواقف الاجتماعية ممتلئة بالمخاطر بدرجة أكبر من الأفراد غير الوحيدين، وهذا ما يجعلهم يدخلون في مواقف اجتماعية دخولًا مختلفًا، وهو ما يثبت بدوره عقبة أمام تشكيل الملحقات التي يرغبون فيها. إنّ الخوف يمنع الشيء نفسه الذي يمكن أن يجعل الوَحدة تهدأ وهو ما يمثّل الاتصال البشري. وأن يقوّضَ الخوف الاجتماعي فورية العلاقات بيننا وبين الآخرين، ومن هذا المنظور، يقوّض العلاقات الاجتماعية. حينما يدخل شخص وحيد في وضع اجتماعي مع الخوف، فإنّ ذلك الخوف يقتضي إسقاط ما يتعلّق بالوضع المستقبلي المعيّن الذي ينبثق كمصدر للألم أو الأذى.
كما كتب أرسطو: “يمكن تعريف الخوف بأنّه ألم أو اضطراب بسبب صورة ذهنية لبعض الشرّ المدمّر أو المؤلم في المستقبل”. ومن الواضح أنّ الشخص الذي يدخل الموقف الاجتماعي مع مثل هذا الأسلوب سيكون أكثر تحفّظًا من الشخص الذي يتّخذ موقفًا مهمًّا، وسيؤدّي ذلك إلى فرض حدود على أنواع التعلّق التي يمكن أن يشكّلها هذا الشخص. تصبح فكرة التكافؤ النفسي ذات صلة. حيث يؤكّد المفهوم أنّ الشخص ليس لديه القدرة على التمييز بين حالاته العاطفية أو المعرفية الداخلية والواقع الموضوعي.
يمكن للشخص أن يستنتج من شعوره بعدم الأمان أنّ الأشخاص الآخرين معادون، حتى لو لم يكن الأمر كذلك بالفعل
يمكن للمرء أن يرى أنّ الأشخاص المنعزلين في كثير من الأحيان يستخلصون استنتاجاتٍ عاطفية غيرَ كافيةٍ بشأن المواقف الاجتماعية. ومع ذلك، يمكن للشخص الوحيد أن يعترض على صعوبة أنّه بعيد عن هذا الموقف؛ لأنّ كلَّ اجتماع مع شخص آخرَ يعني احتمال الرفض المؤلم. ورغم ذلك، قد يكون الردّ أنّ هذا الخوف من الرفض يزيد من فرص النفي. كما كتب أرسطو: “نوع من فقدان الحياة هو الخوف من الشيء الخطأ، وآخر للخوف بطريقة خاطئة، وآخر للخوف في الوقت الخطأ، وهلّم جرّا”. يمكن للمرء، في هذا الصدد، أن يشعر بالخوف المفرط فيما يتعلّق بشيء يحوي درجة معيّنة من المخاطرة، ولكن عندما يكون خوف الشخص لا يتناسب منطقيًّا مع الخطر.
مصادر تشريح الأغنية اليمنية:
مصادر أجنبية في تشريح الأغنية اليمنية
Hegel, G.W.F., Hegel’s Aesthetics: Lectures on Fine Art, vol. I, trans. T. M. Knox (Oxford, 1975)
Nietzsche, Friedrich, Beyond Good and Evil, trans. Judith Norman, ed. Rolf-Peter Horstmann and Judith Norman (Cambridge, 2002)
Kierkegaard, Søren, Sickness Unto Death: A Christian Psychological Exposition of Edification and Awakening by Anti-Climacus,
trans. Alastair Hannay (London and New York, 1989)
Kupersmidt, Janis B., et al., ‘Social Self-discrepancy Theory and Loneliness During Childhood and Adolescence’, in Loneliness in
Childhood and Adolescence, ed. K. J. Rotenberg and S. Hymel (Cambridge, 1999)
المصادر العربية لتشريح الأغنية اليمنية
كتاب هكذا تكلم زرادشت – نيتشه، ترجمة: فليكس فارس – المركز القومي للترجمة.
الطبيعة البشرية – دونالد وودز وينيكوت – ترجمة: عدنان محمد – دار دال.
معنى الحياة – د. الفريد آدلر – فاروق الحميد – دار الفرقد.
فنُّ الوَحدة – لارسن سفيدون – ترجمة: سمية الكعبي – دار منطاد.
التعليقات مغلقة.